استكمالاً لحديث قانون الاجراءات نقول أنه من العجيب أن قانون الاجراءات الفرنسي قد عرف نظام قضايا الإحالة واعتبره ضمانة كبرى للمتهم في هذه المرحلة الخطيرة لما يوفره من أعين محايدة تراقب التحقيقات وتستوفي ما بها من قصور وتسبغ عليها الوصف الصحيح،خاصة أن هناك من الأدلة التي من الممكن أن تطمث اذا لم تحقق في حينها وهو ما يكفلها نظام مستشار الاحالة الذي يمنع تحكم سلطة التحقيق أو انحيازها لوجهة نظرها والتي قد تؤثر على مسيرة الدليل. بل إن المشرع الفرنسي في عام 2000 تدخل بتعديل شهير عرف باسم قانون تدعيم قرينة البراءة ألغى فيه نظام قضاء الاحالة ولكنه في ذات التوقيت استحدث نظام التقاضي على درجتين في مواد الجنايات وهو ما يكشف بوضوح عن الفسلفة الاجرائية التي تستهدف توفير ضمانة للمتهم قبل التصرف في الدعوي، وأن انتقاص هذه الضمانة من حق المتهم في تلك المرحلة دفعت المشرع الى أن يعوضه بضمانة أخرى في مرحلة المحاكمة بأن جعل التقاضي في مواد الجنايات على درجتين ليتيح له فرصة مراجعة الحكم الصادر ضده أمام محكمة موضوعية أعلى. ولكن ومن أسف أن هذه الفلسفة غابت كلية عن المشرع الإجرائي في مصر فأصبح قانون الاجراءات خالياً من الضمانتين فلا هو يعرف نظام الاحالة بما يشكله من ضمانة مهمة قبل المحاكمة ولا هو يعرف نظام التقاضي على درجتين في الجنايات بما يشكله من ضمانة مقابلة في مرحلة المحاكمة. وهذا التذبذب والصمت التشريعي يكشف عن أن المشرع لا تحركه في تشريعاته أو تعديلاته رؤية أو فلسفة ثابتة وانما في أغلب الأحوال يكون مدفوعاً بتأثير لحظي أو انفعال موقت أو رأي عام ضاغط فتكون التشريعات بغير رؤية أو فلسفة. ولذلك فقد احتار المتخصصون مع هذا الوضع فمن جانب لا يريد المشرع أن يساير القوانين أو التشريعات الأجنبية في شأن الإجراءات الجنائية التي سبقتنا بمراحل في تدعيم حقوق الانسان وتكريس ضمانات للمحاكمة العادلة التي هى غاية الاجراءات الجنائية كما أنه من جانب آخر لا يريد أن يجتهد ليراجع قانون الاجراءات الجنائية الذي نقله عن قانون تم الغاؤه ورغم هذه يبقى عليه رغم أن به نصوصاً تتحدث عن أنظمة لا وجود لها في الواقع العملي كنظام قاضي التحقيق الذي أصبح لا وجود له بعد أن انيطت اختصاصاته الى النيابة العامة كذلك. وفي ضوء حالة اللاوعي التشريعي التي نعيشها لا يكون غريباً أن تجد المشرع يتدخل في قانون الاجراءات الجنائية ليستحدث ما سمي بقانون الحبس الاحتياطي ثم يسارع بعد أقل من عام بتعديل ذات النصوص التي استحدثها. ولا يحعل ذلك من قبيل العودة الى الحق، وانما يكشف عن قصور فيما استحدث من نصوص لأن المشرع لم يستلهم الواقع ولم يتحسس مواضع أقدامه ولو فعل ذلك لتبين له أن التعديل خاصة في قانون الاجراءات الجنائية لابد أن ينظر فيه الى المنظومة ككل والى نصوص القانون مجتمعة وهو ما يميز قانون الاجراءات عن قانون العقوبات لأن هذا الأخير قد تعدل نصوصه الخاصة بطائفة معينة من الجرائم دون أن تمس النصوص الأخرى. أما قانون الإجراءات الجنائية فهى مجموعة أو منظومة متكاملة من النصوص يربطها تناغم واحد وتحكمها فلسفة يستمد منها المشرع نظرته للإجراءات الجنائية وقانون حالات وإجراءات الطعن أمام محكمة النقض بقدر حاجتنا الى قانون جديد يراعي الواقع المتغير ولا يستنكف المشرع فيه أن ينقل التجارب الإجرائية المتقدمة في شأن صيانة حقوق الانسان والاحتياط لضمانات المحاكمة العادلة وسوف نحاول في المقالات المقبلة بمشيئة الله تعالى أن نلقي الضوء على العديد من المواضع الشاذة في القانونين سالفي الذكر والتي تؤيد ما نرجوه من أمل منشود في قانون اجراءات جديد وقانون للنقض جديدين يستلهما الواقع.. ويواكباه. وللحديث بقية سكرتير عام الوفد