يذكرني المهندس ابراهيم محلب بالمرحوم عبد اللطيف البغدادي عضو مجلس قيادة الثورة.. نفس الديناميكية والدم الحامي وكثرة الحركة والنشاط الزائد.. ثم الحسم في القرارات.. وسرعة التنفيذ. في أول وزارة من اعضاء مجلس قيادة الثورة بعد إقالة وزارة علي ماهر التي أدت مهمتها في توقيع الملك فاروق على وثيقة تنازله عن العرش لابنه أحمد فؤاد.. كان احسان عبد القدوس هو الذي أقنع مجلس قيادة الثورة مجتمعا بأن الوحيد الذي يستطيع اداء هذه المهمة هو علي ماهر الذي يثق فيه الملك فاروق ثقة عمياء.. وقد كان ثم تمت إقالته!! أعود فأقول إن في أول وزارة لأعضاء مجلس قيادة الثورة برئاسة محمد نجيب ونائب رئيس جمال عبد الناصر.. كان عبد اللطيف البغدادي وزيراً للشئون البلدية والقروية «المحليات الآن» وكان أول قرار له هو كورنيش النيل من بداية طريق الاسكندرية الزراعي إلى حلوان، من الجانبين خلال الأشهر القليلة القادمة!!.. تعجب باقي اعضاء المجلس ولكن لم يلتفت أو يأبه بردود الفعل، البغدادي. كان النيل له شاطئ!! ترابي!! مثل البحار وكان الجيش الانجليزي يعسكر على طول النيل في هذا الشاطئ خوفاً من الغارات الألمانية التي كانت كثير من قنابلها تنزل في النيل. بسرعة.. خريطة للنيل على المنضدة أمام البغدادي وعدد من شركات المقاولات.. وتم تقسيم الطريق على هذه الشركات بمواعيد محددة.. وكان البغدادي يقود سيارته بنفسه وبجواره كرسي قماش من كراسي المصيف.. وكان يركن سيارته بعيداً بعض الشىء عن الموقع ويحمل الكرسي ثم يفرده ويجلس عليه والعمل على قدم وساق ولم يلفت نظر أي مهندس أو عامل!! من يكون هذا الجالس من بعيد.. وربما يعود إلى سيارته لينتقل إلى موقع آخر دون أن يشعر به أحد!! ولكن أحياناً الكل يشعر ويعرف وتحدث الكارثة حينما يرى البغدادي أن العمل يتكاسل وعلى غير ما يرام!! وهنا تصدر القرارات الفورية ويتم تنفيذها!! وأحياناً يتعرف أحدهم عليه فيأتي من أقرب قهوة بلدي بالمنضدة الصاج أو المصري!! وإبريق الشاي الأكثر صدأ مع الكوب الخمسينة!! انتهى الكورنيش الذي نراه الآن في وقت قياسي.. وفي مكالمة بين عبد الناصر ومصطفى أمين الذي اعتبر هذا الانجاز أهم ما فعلته الثورة.. وكان رد عبد الناصر عليه.. - ولسه.. إنت سترى من البغدادي الكثير!! ولكن كانت الغيرة بين أفراد مجلس القيادة مشتعلة دائما.. فرأى عبد الناصر تعيين البغدادي رئيساً لمحكمة الثورة مع السادات وحسن ابراهيم بلا داعي ولكن لإخماد الاصوات في مجلس القيادة التي كانت تطالب بمعرفة ميزانية هذا الكورنيش الطويل جداً على الجانبين وكلام فارغ فآثر عبد الناصر إخماد الفتنة في مهدها. تكفي قصة هدم سور السفارة البريطانية التي كانوا يسمونها «دار المندوب السامي البريطاني» التي كانت تحكم البلاد.. كان سور السفارة حتى مياه النيل نفسها بل يمتد الى داخل النيل حيث كشك الموسيقى فوق المياه.. ارسل البغدادي خطاباً للسفير يخطره بضرورة هدم هذا السور حتى لا يقطع الكورنيش في ظرف يومين والا ستقوم الوزارة بهذه المهمة.. في عصر اليوم الثاني كان البغدادي يجلس على الرصيف وامامه بلدوزر ينتظر انتهاء المدة!! فقامت السفارة بهدم السور فوراً!! ألم أقل لكم إن المهندس محلب يذكرني بالبغدادي رحمه الله رحمة واسعة!! ولكي يعرف القارئ مدى الغيرة بين أعضاء مجلس القيادة خاصة في بداية الثورة.. اليك هذه القصة: في ديسمبر 1952 بعد قيام الثورة بخمسة أشهر رشح أنور السادات نفسه رئيساً للنادي الأهلي.. لذا قرر أحمد عبود عدم ترشيح نفسه ليفوز السادات بالتزكية.. جن جنون كل أعضاء المجلس.. السادات يريد شعبية طاغية لنفسه لا للثورة.. حاول أعضاء المجلس إقناع السادات بالانسحاب دون جدوى.. أنقذ الموقف الذي كان قد تأزم لأبعد الحدود - أمين شعير مدير النادي ومعه محمود بك فهمي - والد ماهر فهمي الناقد المشهور، وكان مديراً لمكتب السادات في المجلس الاسلامي الاعلى في الزمالك حينما أوهما السادات بأن ترشيحه غير قانوني وأن أحمد عبود سيكتسح الانتخابات وتبقى فضيحة للثورة، رغم أنه لم يكن سيرشح نفسه في الحقيقة.. هنا انسحب السادات فوراً.. ألم أقل لكم الغيرة كانت على أشدها بين أعضاء مجلس قيادة الثورة!!