لو أن مسارات «قاطعة» شكلت محددات الاستراتيجيات الفاعلة فى المنطقة، لما عبرت بصدق عن طبيعة الصراع الدولى الراهن، وما يحفل بها من تقاطعات، من شأنها إحداث تغيرات لا يمكن إغفالها، تتعلق بحقيقة التحالفات والتوازنات، فضلًا عن إعادة تحديد أحجام وأدوار الكثير من القوى الإقليمية. وعليه، فليس فى الحرب على داعش ما يثير الشكوك حول حقائق لا تغادر الدرس التاريخي، إلا طوعًا لمن يجد ضالته فى تجاهل معطيات جديدة أفرزتها طبيعة النظام العالمى المعاصر، حيث تتجاذبه رؤى متباينة ما بين عودة إلى حرب باردة، تتيح للدول النامية استعادة قدرتها على المناورة على الساحة الدولية، دون سند حقيقى من عمل جاد يتبنى مقومات النجاح، وبين استمرار النظام أحادى القطبية بزعامة أمريكية، شق احتمالها حتى على بعض أصدقائها فى حلف الناتو، وبين تنظير يؤكد أننا باتجاه نظام متعدد الأقطاب نسير بخطى تضيف إلى رصيد ديمقراطية العلاقات الدولية. وفى انتظار ما ستسفر عنه التفاعلات الجارية على الساحة الدولية، ليس لنا أن نعول كثيرًا على كل ما من شأنه الخروج عن مقتضيات المصالح، كلغة وحيدة للحوار الدائر بين أفراد الأسرة الدولية؛ ومن ثم لا ينبغى أن نتوقف طويلًا أمام الانتقائية الأمريكية فى مواجهة الإرهاب، فليس إلا إخفاقنا، نحن دول المنطقة، أنجع من السياسات والممارسات الأمريكية فى المنطقة، فاعلًا رئيسًا فى دعم وجود الجماعات المتطرفة. ولعل فى نشأة جماعة الإخوان الإرهابية بدعم من القوى الاستعمارية، ما يؤكد حقيقة الدور المنوط بتلك الجماعات فى تهيئة ممرات آمنة أمام النفوذ الاستعماري، كما لا يخفى على أحد كون الجماعة الإرهابية بمثابة الأم لغيرها من الجماعات المسلحة المتشحة بالدين، من القاعدة إلى وليدتها داعش، بل وهى المبرر المنطقى لجماعات على النقيض منها فكرًا دينيًا، وإن كان السلاح قاسمًا مشتركًا بينهم، مثلما الوصول إلى السلطة هم واحد جامع لتلك الجماعات، لا ينال منه أى حرص على المصالح الوطنية. فإذا كانت القوة البشرية لداعش تتراوح ما بين عشرين إلى ثلاثين ألف عنصر، وفق ما جاء فى معظم التقارير الغربية، فليس فى استمرار الحرب عليها عدة سنوات، كما أفادت تصريحات الرئيس الأمريكي، وغيره من قادة الغرب، إلا ما يشير إلى غياب إرادة سياسية مخلصة للإجهاز على هذا التنظيم الإرهابي. وبالنظر إلى نشأة تنظيم داعش فى ظل البيئة الناتجة عن الغزو الأمريكى للعراق؛ لا يعد خروجًا عن المنطق السياسي، التأكيد على وجود رغبة حقيقية فى الإبقاء على داعش، وغيرها من التنظيمات الإرهابية، لما توفره من سُبل «شرعية» أمام المخططات الرامية إلى هيمنة القوى الاستعمارية الجديدة على مقدرات المنطقة، ومغالبة الإرادة الحرة لشعوب المنطقة فى امتلاك قرارها السيادى. وفى سياق دور الإرهاب فى الصراع الدولى الراهن، تجدر الإشارة إلى العلاقات القوية الرابطة بين الولاياتالمتحدةالأمريكية والدول الراعية للإرهاب فى المنطقة، وهى علاقات إستراتيجية لا يمكن تجاوزها، مثلما لا تنجح المشاركة فى ضربات جوية تسفر عن مقتل عدة أفراد، أو تدمير مدرعة أو أكثر لداعش، كسبيل لتأكيد صدق مشاركة تلك الدول فى محاربة داعش. وما لم تتخذ دول المنطقة طريقها نحو تحقيق تقدم حقيقى وجاد ينجز بالفعل نهضة تنموية شاملة، تمتلك بموجبها أدواتها السياسية والاقتصادية، ستظل المنطقة أسيرة أطروحات فكرية لا تحتل فيها مفهومًا يتجاوز كونها المخزون الإستراتيجى للنفط؛ ومن ثم ستبقى إذن الجماعات الإرهابية المسلحة، من جماعة الإخوان، إلى القاعدة، إلى داعش، وغيرها مما قد يكون تحت التأسيس، سلاحًا فعالًا فى يد القوى الدولية، لتبقى الإرادة الأمريكية لمن يدفع ثمن انحيازها، سواء من الجماعات الإرهابية، أو من دول المنطقة. والحال كذلك، تبدو الإشكالية كون الإرهاب، وقد بات فاعلًا رئيسًا فى صياغة العلاقات الدولية المعاصرة، على حين تأتى «مكافحته» سمة أساسية توشى بها أدبيات النظام العالمى الجديد، وكأن القوى الدولية الكبرى عليها أن تتخلص من واحدة من أقوى أدواتها السياسية، بينما تستغرقنا أحلامنا الصغيرة. «الوفد»