كانت الليلة حارة والأجواء رطبة.. الأخبار تتناثر من هنا وهناك.. قصص الدم والنار تطفو على السطح.. موتى يتساقطون وأفكار من صناعة «الألم» تتصارع.. العقل لم يستقر بعد على فكرة إنسانية في حب الحياة والأمل، ليبقى العنوان الأبرز في مواجهة شاشات التلفاز «جماعات إرهابية وجهادية تنشط بقوة في المنطقة العربية التي تعيش أيامها ولياليها على صفيح ساخن»! وسط هذا المشهد التليفزيوني اليومي المتكرر، فقد كنا ثلاثة أصدقاء ننتظر وجبة العشاء في مطعم لبناني.. وبينما ننتظر، إذ بصديقي الأردني يفاجئني بعبارة غير متوقعة: أريد «الجهاد» في مصر؟!. اللون الأحمر يغطي عينيي من فرط المفاجأة والغضب، ولا أخفي أن كلمات صديقي جعلتني أشعر وكأنني أجلس في تلك اللحظة على ذات «الصفيح الساخن» الذي «تستلقي» عليه المنطقة العربية!. مرت ثوانٍ معدودة.. حتى قطع بعدها صديقي تلك الحالة الساخنة الشاردة، والتي قد تطاردك إذا ما تم اختيارك واختطافك بالمصادفة للمشاركة في «اختبار الثلج»!.. صديقي يكمل: «أرجوك.. لا تفهمني خطأ، فأنا أريد الجهاد بالفعل، لكنه جهاد من أجل البناء.. من أجل الحياة.. أتمنى أن أشارك بسواعدى متطوعاً في أعمال حفر قناة السويس الجديدة، فهل تبحث مصر تنفيذ فكرة مبتكرة تحت عنوان «الأسبوع العربي للتطوع في قناة السويس» لاسيما أن المشروع يخدم مسيرة التنمية في المنطقة العربية قاطبةً؟!. صديقنا الثالث وهو «متعدد الجنسيات»، فقد وُلد لأم هندية وأب عربي، ومتزوج من سيدة فلبينية،التقط طرف الحوار ليفاجئنا هو الآخر قائلاً: أتكفل منذ سنوات برعاية طفل يتيم في ريف مصر، وأريد أن أشتري لهذا الطفل شهادة استثمار قناة السويس الجديدة؟!..سألته: هل لديك أية وثائق تخص هذا الطفل؟.. أجاب: للأسف لا! بين السؤالين، تزاحمت في عقلي إجابات وأفكار عديدة، إلا أنني وقبل أن أتوجه إلى الصديقين بالشكر على مشاعرهما النبيلة، فقد كان المشهد الذي يبثه التلفاز يتغير، فالصورة الآن لتقرير مصوّر حول أول حالة وفاة من العمال خلال أعمال حفر قناة السويس الجديدة!. قبل أن أجيب، رنّ جرس هاتفي، ويبدو أنه قد أجاب بصوت مسموع:» مفيش في الدنيا أغلى من الوطن ده الكل عندي.. أول ما يقولوا مصر ألاقي نفسي أبكي لوحدي.. أتحدى أنا أي حد يحبها قدّي»!. طلب مني الصديقان عدم الرد، ليكمل هاتفي: يا مصر انت أمي وانت أبويا وانت ناسي، في كل مكان بروحوا يقولوا مصر رافعة راسي»!. وابتسم الصديقان!..