الكلمات تمردت.. والحروف تجمدت.. والأفكار تبلدت.. والدموع في المآقي تحجرت. القلم أصبح عصيا لا يريد أن يخط رثاءك.. ولم لا.. فأنت عادل القاضي. أنت الذي عشت حياتك مهموما بالوطن والأسرة والمهنة. اقتسمت معك لقمة العيش في مصر والسعودية والإمارات، وكأن القدر أراد لنا أن نقتسم الرزق والهم معا، ولكنه أبى أن نرحل سويا، وأنا الذي أكبرك بعدة سنوات. منذ أن عرفتك قبل نحو ربع قرن، وأنت تجسد لي الصورة المثالية للابن البار لأهله، فقد رأيتك مكافحا من أجل أن توفر لهم الحياة الكريمة. لم أقابل إنسانا مثلك لديه ذلك المخزون الهائل من براءة الطفولة، التي كانت ترتسم بها كل مظاهر حياتك وعلاقاتك بالآخرين. تحملت مسئولية أمك وأختك وأخيك بعد وفاة والدك، وأنت مازلت طالبا في كلية الإعلام، فلم تعش مرحلة الشباب، كنت تعمل ليلا ونهارا لتهيئ لهم ما يريدون، حتى تزوجت أختك وتخرج شقيقك ضابطا بالشرطة. رأيتك عاشقا للصحافة، ليس حبا في الصحافة وحسب، وإنما حبا في الوطن، فمن خلال هذا العمل استطعت أن تخدم مصر وشعبها.. وقد تحقق لك ذلك عبر تحقيقات جريئة ومقالات ساخنة وأخبار ومتابعات وقصص، ربما طواها النسيان. أما أنا فلم أنس.. لم أنس- يا صديقي- أبدا أول وآخر لقاء بيننا.. الأول عندما انتقلت من "روز اليوسف" عام 1986 إلى "الوفد" حيث دعوتني ذات مساء إلى عشاء متواضع في حي المنيرة، الذي كانت تصدر منه "الوفد" آنذاك. ومنذ ذلك اليوم، بدأنا نقتسم الرزق والحياة، فمن "الوفد" إلى "وفد الدلتا" حيث اقتسمنا منصب مدير التحرير، ونجحنا. ارتبطنا سويا حتى في اختيار الأصدقاء والأمكنة. هل تتذكر سهراتنا في مكتب ومنزل أيمن نور؟. كنا ساخطين على بعض تصرفات أستاذنا المرحوم سعيد عبدالخالق، وكنا نخطط بسذاجة وبحماس الشباب لإبعاده عن الديسك المركزي.. ولكنك- يا صديقي- استشعرت سخافة ما يجري في هذه الاجتماعات، فآثرت الابتعاد، وصارحت الراحل العظيم بكل متاعبنا، فعدل من مواقفه معنا. ثم تركتني وغادرت إلى جريدة "المدينة" السعودية.. ويشاء القدر أن ألحق بك بعد شهور قليلة، لنتقاسم مرة أخرى الرزق والهم معا. لم يكن يمر أسبوع إلا ونتزاور عائليا، نخفف عن بعضنا متاعب الغربة. ولم يكن للنزهة أو التسوق في جدة معنى أو طعم إلا إذا كنت معنا. كونا جالية مصرية مصغرة، لننسج خيوطا اجتماعية بنكهة مصرية. ومرة ثالثة، تتركني وتبتعد إلى الإمارات حيث التحقت بجريدة "البيان" في دبي. ولم تنقطع اتصالاتنا، حتى حدثت لي مشكلة مع أحد مسئولي "المدينة"، ففوجئت بك تعرض على السفر إلى الإمارات، وقدمتني في أجمل صورة، لنواصل أيضا اقتسام الرزق والهم. ومرة رابعة، تفاجئني بالعودة إلى مصر، لأمضي في الإمارات نحو عامين وحيدا، افتقدت خلالهما إلى حديثك العذب ووجهك البشوش وأنت ترحب بي "أهلا يا أبوحميد". ويشاء القدر أن ارتحل مرة أخرى إلى "الوطن" السعودية، لتعود أنت إلى "الاتحاد" الإماراتية. لم يمر على عودتي إلى السعودية شهران حتى فوجئت باتصال منك.. كنت شغوفا- كعادتك- بالاطمئنان على أحوالي، فهكذا عرفتك، لك من اسمك نصيب، فلم لو كان لي حق وصفك لقلت "أنت عدل القاضي". ومثلما كانت سعادتك غامرة بعودتي إلى "الوفد" عام 2002 عند آخر لقاء بيننا، كانت سعادتي لا توصف عندما علمت أنك عدت إلى بيتك الأول "الوفد"، وكأن القدر شاء للرحلة أن تبدأ منها وتنتهي فيها. صديقي.. أنا لن ابتئس، فإذا كان القدر قد أراد لنا أن نفترق فترات من العمر، فحتما سيكون لنا لقاء دائم في موعد محتوم.