ضربت الوزيرة البريطانية سعيدة حسين وارثي التي تحمل، بقرار ملكي من صاحبة الجلالة إليزابيث الثانية، لقبا أرستقراطيا هو «البارونة وارثي»، مثلا رائعا للالتزام الأخلاقي والوطني، عندما تقدمت باستقالتها إلى رئيس الوزراء جورج كاميرون، احتجاجا على موقف الحكومة البريطانية من الصراع الراهن في غزة. ويتأسس الموقف الأخلاقي على رؤيتها الواضحة للخسائر الجسيمة في أرواح بريئة من اليهود والعرب، والترويع الذي يعيشه الشعبان في إسرائيل وفلسطين، أما الموقف الوطني فيتمثل في تقديرها السليم للتوترات الداخلية، في بريطانيا ذاتها ،تلك التوترات التي تنشأ عن موقف حكومة كاميرون المتخاذل من الوحشية التي تمارسها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية والمنظومة السياسية المعلقة بذيل جيش الدفاع. وقد يلاحظ القارئ أنني أشرت إلى الضحايا الأبرياء ،في الصراع الراهن، من اليهود والعرب، وذلك لأني أومن بقدسية الروح البشرية ،بغض النظر عن الدين او العرق أو الجنسية أو غير ذلك مما يفرق بين البشر. ونحن نقرأ في القرآن الآية الكريمة التي تقول «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات»، وقد نجد في بعض تفاسير هذه الآية ما يفهم منه أن الجنس البشري المستحق للتكريم لا يتحقق إلا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ،لكن الأقرب إلى العقل وإلى المنطق القرآني أن الله فضل بني آدم، النوع البشري، على إطلاقه من محددات الدين والعرق والنوع (الجندر) والوطنية، على بقية خلقه، حتى على الملائكة ،وفق حديث يصفه البعض بأنه حديث غريب جدا: «قال الطبراني حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا عمر بن سهل حدثنا عبيد الله بن تمام عن خالد الحذاء عن بشر بن شغاف عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما شيء أكرم على الله يوم القيامة من ابن آدم قيل يا رسول الله ولا الملائكة قال ولا الملائكة، الملائكة مجبورون ،بمنزلة الشمس والقمر». الوزيرة البريطانية المستقيلة كانت مكلفة بالعمل من أجل مكافحة التوترات العرقية والإثنية الضارة بالسلام الاجتماعي في بلادها، وهي تحديدا: جرائم الكراهية (بين المواطنين البيض والملونين) والعداء للسامية، والإسلاموفوبيا. ومن أجل رعاية وترشيد الممارسات المتصلة ب»الاحتفال بالعقيدة في المجال العام». وهذه المهمة الأخيرة تجدها في مصر ،مثلا ،ممثلة بحق المسلمين في أن يذيعوا الأذان وأن ينقلوا وقائع الصلوات الخمس وطقوس يوم الجمعة وصلاة التراويح في رمضان وأيام الأعياد بالميكروفونات ،وأن يؤدوا الصلوات خارج المساجد. وفي حق المسلمين والمسيحيين بالاحتفال العلني بمختلف المناسبات الدينية. إذن هذه وزيرة مهمتها هي رعاية وتعزيز التنوع والتسامح العرقي والديني في بلادها ،وقد ساءها أن بريطانيا لم تظهر قوة كافية في موقفها من وحشية الجيش الإسرائيلي، خاصة فيما يتصل بإدانة الهجوم على مدرسة تابعة للأمم المتحدة في غزة. وقد أثار الهجوم الذي تعرضت له رفح وأسفر عن عشرة قتلى بينهم أطفال تتراوح أعمارهم بين الخامسة والثانية عشرة، عن إدانات دولية انهمرت على إسرائيل من كل أنحاء العالم، ومن الولاياتالمتحدة والأمم المتحدة. ونحن نحيي الوزير ونتمنى لو أن في بلادنا منصبا وزاريا مكلفا بمثل هذه المهمة الجليلة التي هي، بالحقيقة، إعادة تعليم reeducationللشعب في ثقافة التعايش والسلام الاجتماعي واحترام إنسانية الإنسان.لكن موقفنا من الصراع يختلف عن موقفها. فعلى رغم الإطار الفلسطيني الوطني العام الذي تحرص عليه كل الأطراف المعنية بتهدئة الوضع وتوفير الدم المسفوح والأرواح البريئة التي أزهقت على جانبي خط المواجهة، وفي مقدم هذه القوى مصر، فنحن نخشى أن يكون التركيز على المأساة التي لا تنكر بشاعتها في غزة هو مقدمة لدفن حل الدولتين وتكريس حل الدول الثلاث: دولة إسرائيل ودولة الضفة التي ستنضم للأردن، ودولة غزة. مشكلة حل الثلاث دول أنه حل سوف يحمل مصر عبئا ثقيلا للغاية، والعالم كله تحدث، بمجرد وصول محمد مرسي للحكم في مصر ،عن «ضرورة» أن تتنازل مصر لغزة عن 520 ميلا مربعا لصالح البانتوستان الفلسطيني الذي سينشأ في غزة، والذي يحمله العالم اليوم بكل الدلالات الإنسانية التي تنطوي عليها المأساة الفلسطينية، وهو أمر سوف يزداد قوة بعد انضمام دولة فتح في الضفة للأردن، لتبقى غزة – بعد ذلك –الإقليم الوحيد والشعب الوحيد المحملين باسم فلسطين والوارثين لكل الدلالات المأساوية لهذا الاسم. وفي التفاصيل المنشورة حول جهود السلام التي قادها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، باسم باراك أوباما، والتي أحبطها التعنت الإسرائيلي، تفصيلة مرعبة، تتعلق بأن الرئيس محمود عباس كان مستعدا لإقرار مادة يعترف فيها بأن «إسرائيل هي الدولة الوطنية للشعب الإسرائيلي». وقد يكون هذا تعطلاً مؤقتا، لكنه يشير لتوجه قد لا ترجع عنه إسرائيل وأنصارها.وهذا التوجه سوف يكون هدفه تخفيف الضغوط الديموغرافية على مشروع الوهم الصهيوني بطرد مليون ونصف مليون عربي يحملون الجنسية الإسرائيلي، وشيل يا أردن وشيلي يا مصر. طبعا المليون ونصف سيتناسلون بالقوة العربية المعهودة، ومعهم مليون وثمانمائة ألف في غزة يسابقونهم على طريق التكاثر، وبريطانيا التي أنجبت إسرائيل بعد حمل استمر من 1917 حتى 1948 تكتفي بإدانات باهتة، وإسرائيل الصبي الذي طير اليمين الصهيوني عقله منذ انتصار 1967الغادر وغير المستحق تتهرب دوما من مسئولياتها، وسيناء جرى إخلاؤها، على مر العصور ،لسبب قد يكون اليوم واضحا. أشعر بمغص يجعل من الصعب علي مواصلة هذا التأمل في المأساة، لكني أقول ما لا يفهمه الصهاينة ،والذي أرجو أن يفهمه كل يهودي طيب، وكل مسيحي طيب، وكل مسلم طيب :ربك فوق الجميع. «ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين».