معظم من ينتقدون الموقف السعودي القوي ضد مغامرات حماس الدموية يعتمدون على ما يقوله الصحفي البريطاني دايفيد هيرست في مبارزاته الإعلامية المتتالية ضد الدبلوماسية السعودية. لقد كان هيرست ومعه زميلته (وصديقتي العزيزة التي لم أعد أعرف شيئا عنها ) آيريني بيسون من أكثر من رأيت من الصحفيين البريطانيين ،في السبعينيات، انتقاداً لأنور السادات ومسيرته السلمية ،ولم أكن أرى في ذلك سوى سخط على رجل دولة مصري اقترب من واشنطن وكانا يريدان منه أن يكون أقرب إلى لندن. كنت أرى فيهما ،رغم عدائهما للاستعمار ،حنينا لعظمة بريطانيا. واليوم لا أرى في كتابات هيرست منطقا ،فبتحليل محتوى مقالاته تدرك أنه حزين على الأرواح البريئة التي تزهق ،على الدم الفلسطيني الذي يسيل ظلما وعدوانا. لكن حزنه المبرر والمفهوم أفقده صوابه فراح يخرف. لو أنه وزع اتهاماته بين حماس التي تندفع ،دائما ،إلى مغامرات تضحي فيها بأرواح الفلسطينيين ،وبعد وقف إطلاق النار يخرج قادتها من مخابئهم رافعين علامات نصر لا وجود له إلا في المقابر ،وبين إسرائيل التي يقتل لها صبي فتقتل مقابله ألفا وتجرح ألوفا ،لو فعل ذلك لقلنا إنه يضع يده على الجرح :على مغامرين فلسطينيين قسموا بقايا فلسطين وحولوا غزة إلى بانتوستان إسلامي لا علاقة له بالضفة، وساهموا في تبديد القوة السياسية للوطنية الفلسطينية ،ثم دفنوا هذه الوطنية الفلسطينية ذاتها في قبر الأصولية الدينية ،وعلى عنصريين في الحكومة الإسرائيلية يقودون شعبهم لانتصارات مخزية على شعب أعزل ويعلمون اليهودي كيف يكون قاتلا ولص أراض ،بعد مسيرة عذاب يهودية طويلة ،عبر العصور ،انتهت إلى أن تحول اليهودي في الحرب العالمية التاريخية إلى رمز نبيل لعذابات الإنسانية على أيدي النازيين. لم يوجه هيرست لوما لاستهتار حماس وطيشها ،ولم ير في رفضها المبادرة المصرية تفضيلا لخيارات حزبية إخوانية على ضرورة انقاذ البسطاء الذين تشويهم النار الإسرائيلية أحياء. لم ير في متاجرة حماس بدم مواطنيها مقابل دعم قطري وتركي خسة وانعدام ضمير. بل ركز هجومه على من يريدون قف نزيف الدم ،من مصريين وسعوديين وإماراتيين. لماذا؟ لأنه حريص على بقاء حماس التي لا تمثل سوى نهاية لحل الدولتين ونهاية للوطنية الفلسطينية التي تمزقت بفضل حماس ؟ لا أظن، فهذا الرجل الذي لم يوجه لإسرائيل من اللوم نصف ما وجهه لمن يتبعون خطا في حل الأزمة لا يرضى هو عنه تحركه دوافع إنسانية ضلت طريقها. وأرى حاله اليوم شبيها بحال المعلق الفلسطيني عبد القادر ياسين الذي يفزعه دم شعبه المراق ،ويكاد يفقده صوابه. ولا ألومه على ذلك ،فعبد القادر ياسين لم ير في حياته تعقيدات السياسة ولكنه ينظر دائما إلى مطلقات أخلاقية تدفعه لأن يدافع عمن لا أخلاق لديهم :عن حماس التي يدافع عنها اليوم بزعم أنها هي وحدها التي تقاوم ،رغم أنها تدبر لشعبها المجازر باسم المقاومة. أي مقاومة هذه التي ظلت تستنزف الدم الفلسطيني حتى لم تعد فيه قطرة؟ أي مقاومة تلك التي اختزلت الوطن الفلسطيني حتى بقي بقعة اسمها غزة تكاد لا تبين على الخريطة ؟ إنها مقاومة من نوع ممانعة بشار الأسد ومن نوع مقاومة حسن نصر الله المشغولين اليوم بذبح خصوم الشيعة في سوريا. انتقدت حسن نصر الله وطالبت بمحاكمته عندما جر بلاده إلى حرب ضد إسرائيل في 2006متجاهلا القيادات السياسية والعسكرية لبلاده ،وكاد الفنيون والموظفون في استديو النيل للأخبار أن يفتكوا بي. مجرد أن يحمل العربي سلاحا يصفق له كل العرب ولو أدى السلاح لهزيمته وهزيمة العرب. لكني أقول يجب أن يعلو صوتنا مطالبا بنزع سلاح حماس :السلاح الذي يؤدي إلى موت ألوف الفلسطينيين وعشرات الإسرائيليين هو سلاح صهيوني وليس سلاحا فلسطينيا وإن كان بيد حماس. أريد نزع هذا السلاح حفاظا على أرواح الفلسطينيين أولاً، وعلى أرواح الإسرائيليين ثانيا ،ولفتح الطريق أمام سلام ينهي المجازر ويهدم الأسوار العازلة ويوقف عملية تحويل الفلسطينيين إلى عاطلين ومهربين رغم أنهم من أكثر شعوب العالم قدرة على العمل المنتج. أقول للمصريين : شاء الله أن تكون غزة على حدودنا الشرقية ،وهذا قدر نستسلم له لكننا لن نترك لأي فصيل في غزة فرصة لتحويل سيناء إلى ملعب للدمار الإخواني ،ولا يمكن تقرير مصير غزة إلا بتحرك عربي ،ينطلق من القاهرة ،للضغط على إسرائيل من أجل السلام. لا يمكن أن تكون هزائم حماس العسكرية مؤهلا لاعتبارها طرفا يمكن التعامل معه. ليست هي التي تنزف ،بل ينزف الفلسطينيون الأبرياء الذين ألقت بهم حماس في أتون معركة تعلم ،قبل أن تبدأ ،أنها خاسرة. وقادة حماس الآن في مخابئهم الآمنة ينتظرون أن يسقط آخر قتيل كي يخرجوا ويقولوا إنهم انتصروا. لابد أن يختفي هؤلاء من المشهد تماما. لكن يختفون لصالح من؟ لقد استهلكت إسرائيل السلطة الوطنية الفلسطينية في مفاوضات عقيمة ثم في إذلال متصل ،حتى أصبح السلام، من المنظور العربي ،يعني المذلة.وجرّت تل أبيب الرعونة الحمساوية لمغامرات دموية عقيمة ،كهذه الدائرة اليوم ،حتى أصبحت المقاومة ،بنظر الإسرائيليين تعني الرعب والإرهاب. وقد آن الأوان لبديل عن السلطة الوطنية الفلسطينية وعن حماس ،بديل يتشكل برعاية مصرية سعودية إماراتية تحت مظلة دولية. هل تقبل القاهرة و العواصم العربية بذلك ؟ هل تقبل تل أبيب ؟ هل تقبل واشنطن ؟ هلى تقبل بروكسيل ؟هل تساعدنا موسكو؟لا أدري ،لكن لا بد أن نحاول.