عبدالله السويجي حلّ رمضان أمس بحلله وحلته وحلاوته وحلاله، وهذا الشهر يحل حلول الروح في الجسد لينطقه بالحق، ويضيء جنباته بالذكر والتقوى وعمل الخير والتأمل، ورمضان أكثر من مجرد شهر بدايته صوم ورحمة ومغفرة وآخره عتق من النار وفرحة عيد. وما بينهما حفلات وموائد إفطار تحتوي على ما لذ وطاب، إنه شهر المراجعة والتقويم وممارسة النقد الذاتي، وهو شهر تتجلى فيه الرحمة ومشاعر التآزر والتعاضد، فيسلم فيه الفقير المستهلك من التاجر الجشع، ويسلم فيه المسلمون من بعضهم بعضاً، فلا صراعات ولا نزاعات ولا مؤامرات، بل روحانيات وذكر رب السماوات . هذه ليست خطبة جمعة وليست عظة ولا فتوى ولا حتى توصيفاً لحقيقة رمضان، فنحن فقراء إلى الله نحاول أن نعظ أنفسنا أولاً، ولا نستطيع الوصول إلى حقيقة الشهر الكريم بالمفردات والبلاغة، فهو يفوق معنى المعنى حتى يلامس جوهر الجوهر، ولا يمكن الوصول إلى بياضه إلا بسلوك درب البياض، ولا يمكن الإحساس بحلاوته إلا إذا رأيت الابتسامة في عيون المساكين واليتامى وأبناء السبيل وأبنائك وأرحامك وجيرانك . إن كل ما تقدم لا يعني استحالة الوصول إلى ملامسة هالة ومكانة هذا الشهر، بل يعني سهولة الوصول وبساطته، وهذا لا يتطلب أكثر من الكف عن أكل لحوم الآخرين نيئاً، وإخلاص النوايا، وألا تعلم اليد اليسرى ما قدمته اليد اليمنى، فهذا الشهر أكبر من التباهي أمام الخلق، وأكبر من أن يكون دفتر حسابات، إنه شهر العمل السري الذي يشبه نسمة الهواء مجهولة المصدر، التي تهب على إنسان يعاني قيظ الظهيرة، أو أن تلامس روح الإنسان رحمة ولا يعرف مصدر الدعاء، فإدخال النور إلى قلوب الآخرين عملية ذاتية تعود على الوسيلة أكثر مما تعود على المستفيد الآخر، وأجمل الأعمال هي التي لا تشعر أصحاب الحاجة بالمنّة، فتحفظ لهم كرامتهم وإنسانيتهم وشموخهم، فرمضان روح تغذي الكبرياء الذي يستحيل تواضعاً، وتغذي الكرامة التي تستحيل إنسانية، ولا فضل لأحد على أحد، فالكل يتصدقون من خير الله، ويتمتّعون من نعم الله، وينشرون ضوء الله، وما الإنسان سوى خادم بسيط وناقلٍ لما ليس له لمن يحتاجه . قبل أن يحل رمضان حلّ الجشع والطمع في نفوس التجار، فارتفعت أسعار السلع إلى درجات جنونية، ويرجعون هذا الأمر إلى زيادة الطلب والإقبال على تخزين المواد الغذائية، كأنهم يتهمون المستهلكين بزيادة الأسعار، أو كأنهم يعاقبونهم على الإقبال على الشراء، وهنا لا بد من التوقف وطرح الأسئلة المريرة: لماذا يشعر الناس بالجوع قبل بدء رمضان بأسبوع؟ ولماذا يقبلون على الأسواق بهستيريا وكأنهم سيتعرضون لحصار؟ فيملأون الثلاجات والبرادات والمخازن بكل أنواع الطعام، ثم يرمون نصفه في الأسبوع الأول من رمضان لأنه تعرض للتلف، أو يضطرون لاستهلاكه حتى لو شعروا بالتخمة . ولماذا يقوم التجار برفع الأسعار رغم توفر السلع وتوفّر قنوات الوصول وموانئ الاستيراد، أي لا موانع أمام طرد الإمداد، وكل ما يحتاج إليه التاجر هو أن يقوم باستيراد كميات كبيرة قبل بداية الشهر، لا أن يستورد كميات كبيرة ويرفع الأسعار في الوقت ذاته، وكأنه يحيك مؤامرة على جيوب المستهلكين . النتيجة التي يتوصل إليها التجار والمستهلكون مع نهاية كل شهر أن التاجر لم يسوق ما استورده، وأن المستهلك لم يستهلك ما خزّنه من معلبات ولحوم وفاكهة مجففة وتمور وأنواع الشراب . أين ستفطر هذا المساء؟ سؤال مشروع يتكرر في رمضان بطريقة عجيبة، يعني أن المستهلك يقوم بتخزين الطعام في البيت ثم يبحث عن مطعم يتناول فيه إفطاره! أو يدعو الأهل والأصدقاء إليه، ورمضان في حقيقته بيت، يجتمع فيه أفراد الأسرة في ألفة وحميمية ومحبة، هذا الاجتماع الذي يسجل غيابهم معظم شهور السنة . أما المطاعم وأصحابها هم من فئة التجار أيضاً، فإن مبالغتهم في الأسعار غير منطقية وتدخل في إطار الجشع واستغلال رغبة الناس في الترفيه عن أنفسهم بعد الإفطار . وأما المقاهي، من المعيب أن نستخدم مفردات جارحة في رمضان، لأن ما يحدث في المقاهي أكثر من مجرد تجمّع للأصدقاء، فالبعض يصل إلى مرحلة العربدة . أما من لا يزال يحارب مدعياً أنه يقوم بربيع عربي، فقد استقبل رمضان بالذبح والقتل والسرقات والخيانات والاصطفافات والاعتقالات والمبايعات والفتاوى، إلى درجة أنهم فرشوا لرمضان الدرب بالدم والأشلاء، وفي الحقيقة، فإنهم فرشوا لأنفسهم هذا الطريق، لأن رمضان لن يمر به، ولن يصلهم وهم يحاربون وعيونهم على النساء والبنوك والمصارف وخيرات الآخرين وتجارة الآثار والسلاح والمخدرات، سلاحهم التكفير، وهي مهمة ربانية وليست إنسانية، فالله يعلم ما في النفوس، فإذا بهم ينتحلون هذه الصفة، ويطلقون أحكام الإعدام بسهولة ويسر من دون تأنيب ضمير، في الوقت الذي أمر الله الناس في كتابه العزيز ألا يكفّروا بعضهم بعضاً . ليتذكر كل صاحب مائدة عامرة أن هناك نازحين يعتاشون على لقيمات معدودات، وليعلم كل صاحب بيت أن هناك أناساً لا تسترهم سوى خيمة في الهجير، وليفهم كل مرتاد لمقهى بقصد اللهو أن شباناً عرباً ومسلمين في مثل عمره وشبابه لا يجدون كرسياً يجلسون عليه، ولا طاولة يجتمعون مع أهلهم حولها، ولا مساءً ساخناً يصنعون فيه كوب شاي يبلل جوفهم بعد طول جوع وعطش، وليتذكر من يقوم برمي الطعام أن هناك أطفالاً يحلمون برغيف خبز ساخن في بيت آمن . وليتذكر كل من يفكر باستغلال العروض لاستبدال الأثاث الجديد الذي لم يمض على شرائه عام أو عامان، أن هناك أسراً تحلم بسرير وأريكة ولحاف دافئ . لسنا ملائكة ولكن لماذا لا نتشبّه بكائنات النور؟ ولسنا أنبياء ولكن لماذا لا نسلك دروبهم الصغيرة؟ فلنكن في هذا الشهر غير الذين كنّاهم في العام الماضي، كي لا ترتفع الأسعار، ولا تزداد العربدة، وكي يفشل الربيع الدموي . نقلا عن صحيفة الخليج