«عن يهود مصر» للمخرج أمير رمسيس فيلم يقدم رؤية إنسانية ليهود انحازوا لماضيهم وذكرياتهم علي أرض هذا الوطن ولم يفكروا في مستقبلهم الذي غدا مظلما مع التدافع السياسي الذي أعقب ما تم التعارف عليه علي أنه ثورة يوليو 1952. ويأتي الجزء الأول من الفيلم ليقدم ماضي الطائفة اليهودية من خلال خطوط عريضة تتبع أهم الشخصيات البارزة ودور اليهود في السياسة والفن المصري، كما ألقي الضوء علي كثير من النماذج التي هجرت قهرا مثل هنري كوريل وغيره من الذين اختاروا تراب هذا الوطن وطالبوا بحق اللجوء الإنساني الي ذكرياتهم وبيوتهم القديمة ليصبحوا عبرة لكل من يقدم مصريته علي ديانته والنتيجة هي خوف اليهود المصريين وتجنبهم للسفر لرؤية عائلاتهم لأن تأشيرة الخروج دائما ما تحمل خاتم «ذهاب بلا عودة». ويأتي الجزء الثاني لفيلم «عن فيلم يهود مصر» تحت عنوان «نهاية رحلة» الذي عرض في افتتاح الدورة السابعة عشرة لمهرجان الإسماعيلية للسينما التسجيلية والقصيرة بعيدا عن السرد العام الذي انتهجه الجزء الأول في تقديمه لوقائع التاريخ الذي طواه الماضي كما واري التراب الآلاف من اليهود حتي إنه لم يتبق منهم سوي سيدات قلائل يتحسرن علي إنسانية مصر التي فقدتها عبر المراحل الزمنية التي تلت حكم جمال عبدالناصر ليؤكد حقيقة تخريب السياسة للمجتمع المصري. ورغم أن الفيلم ينتمي الي نوعية الأفلام الوثائقية فإن البطولة في الجزء الثاني اقتصرت علي رئيسة الطائفة اليهودية في مصر المحامية ماجدة هارون التي تولت مسئولية ما تبقي من يهود في مصر بعد رحيل كارمن لأنها أكثرهن قدرة علي الحركة بالإضافة لشقيقتها نادية. فالفيلم يقدم رصدا ل12 سيدة يهودية هن من تبقين في القاهرة بأسرها مقارنة بنحو مليون يهودي قبيل الخمسينيات من القرن الماضي ليعرض وجهة نظرهن لقضية اليهود التي أصبحت قضية صراع علي البقاء في ظل تصويرهن علي أنهن جواسيس أو خونة رغم أنهن مصريات اخترن الأرض المصرية للعيش ولم يشاركن في جريمة سرقة أرض عربية أخري فهن مهمومات بالشأن العام وأسرهن زرعت فيهن حب هذا الوطن الذي حاول طويلا لفظهن خارجه، حتي إن ماجدة هارون ماتت إحدي شقيقتيها لعدم تمكنها من السفر للعلاج بالخارج لأنهم اشترطوا علي والدها المحامي شحاتة هارون الذي سجن كثيرا لأنه ينتمي للمعسكر الشيوعي أن خروجه من مصر سيكون بلا عودة. ورغم هذا الحزن الذي يخيم علي أفراد الطائفة اليهودية الاثني عشر إلا أن الفيلم يحمل الكثير من البهجة التي يفرزها استحضار الماضي الجميل بذكرياته التي رسخت في عقول عجائز ارتدن المدارس المصرية وتسكعن في شوارع كانت أجمل مما هي عليه الآن وبذلن الكثير من الجهد للتعود علي تغيير نظرة المجتمع لهن بعد أن أصبحت الطائفية جزءا من تفكير الساسة المصريين الذين تتابعوا علي مقعد الرئاسة حتي انتقلت نيران الطائفية من استهداف اليهود لتحرق المسيحيين والمسلمين منذ بداية السبعينيات حتي وقتنا هذا. وتري بطلة الفيلم ما تبقي من إناث اليهود اللاتي لا يملكن إلا الماضي لأنهن بلا مستقبل فهي تري شبح الانقراض يقترب وتوصي بفتح المعابد اليهودية لتصبح منابر ثقافية تقام فيها الاحتفاليات الفنية ويتلي فيها القرآن وتتردد فيها الترانيم المسيحية حتي يلتحم المصريون مجددا بعد فرقة دامت طويلا وجهاد ضد النظرة السلبية التي زرعها النظام الناصري في عيون المصريين، ورغم هذا كله فهي تحتفظ باثني عشر كفنا لمن يبقين من يهوديات في مصر وتحاول أن تشعر بما شعرت به الديناصورات قبيل انقراضها فهي تقف وحيدة ولا تري أحدا بجانبها ليخيم الحزن عليها في انتظار حكم القدر عليها بالموت والحكم بالإعدام علي وجود اليهود في مصر للأبد. ويختتم أمير رمسيس فيلمه بمشاهد لوفاة نادية شقيقة ماجدة هارون والبطلة الثانية ل«نهاية رحلة» في إشارة الي أن مصير هؤلاء اقترب ولم يعد هناك وقت كثير حتي ينفرط عقد السيدات الاثني عشر ويواريهن التراب فالجزء الثاني أكثر إنسانية لأنه لم يتعرض ليهود مصر من الخارج ولكنه دخل الي عالم اليهود وفتح خزائن أسرارهن المغلقة علي مصراعيها. والمفارقة الغريبة أن اليهودية كديانة بدأت علي أرض مصر ثم انقسمت لاثنتي عشرة طائفة يهودية والآن وهي علي وشك الانقراض لم يبق إلا اثنتا عشرة سيدة «فطوبي للودعاء فإنهم يرثون الأرض»