ليس كصناعة المستقبل أجدر بالتفوق علي ما عداها من أولويات وطنية في المرحلة الدقيقة الراهنة، وأمام ذلك ينبغي أن تتراجع كافة الاهتمامات الضيقة التي لا تتسع لمجمل الطموحات الثورية التي تعطلت كثيراً علي مدى ما حفلت به الثورة المصرية من فعاليات. ويشير الدرس التاريخي المقارن إلي أن صناعة المستقبل صناعة محلية بالأساس، حيث تستعصي التجارب الدولية علي محاولات الاستنساخ، لعوامل عديدة تجعل من التجربة الثورية حالة خاصة، لا ينبغي تناولها بعيداً عن سياقاتها الداخلية والخارجية. فمع الإقرار بكون التجارب الدولية، ومن بينها الثورات الشعبية، من مصادر الإلهام، بل ومن عوامل تكوين وتشكيل وتوجيه الرأي العام المحلي، إلا أن المكون الوطني في صناعة المستقبل يظل هو محل الرهان الحقيقي في العمل الثوري، وعلي مدى محتواه من مكنون حضاري، ترتكز دلائل نجاحه، وأسباب فشله. فلتكن الانتخابات الرئاسية خطوة واسعة نحو إعادة ترتيب البيت المصري، ننطلق منها باتجاه الاستحقاق الأخير المتعلق بالانتخابات البرلمانية، لنضع حداً لغياب المؤسسات الدستورية عن المشهد الوطني، بحثاً عن سُبل تحقيق الدولة الديمقراطية الحديثة، الكفيلة بتبني المبادئ والأهداف الثورية. في غضون ذلك، فلتخفت أحاديث الماضي، وما تستدعيه من عوامل الفرقة والاستقطاب إلي مشهد وطني لطالما عاني التشتت جراء محاولات البعض احتكار الحقائق، وسعي البعض الآخر لاحتجاز الوطنية بعيداً عن كل معارض؛ فليست صناعة المستقبل إلا جهد وطني مشترك، لا ينبغي أن يتخلف عن المساهمة فيه كل تيار وطني، متى تجرد من الأغراض الذاتية. من هنا فإن محاولات البعض الاستئثار بقيادة العمل الوطني، وحصر توجهاته في منهج فكري تميز به الحكم في مصر في فترة معينة، هو أمر يستبعد كون الثورة المصرية ملكاً للشعب بأسره؛ ومن ثم لا بديل عن استدعاء كافة الجهود الوطنية، دون تمييز، مثلما الثورة كذلك منتج لا يمكن عزله عن مكوناته. ولا ينفي ذلك ضرورة الانتباه إلي جملة من المتغيرات التي باعدت بين أدوات وآليات لطالما استندت إليها أيديولوجيات الحكم في مراحل سابقة، وبين ما تتيحه حقائق الأمور من متغيرات علي أرض الواقع، دون أن يفتح ذلك أبواباً واسعة، نستغرق أمامها طويلاً جهداً لا جدوى من ورائه سوى الطعن في وطنية أنظمة حكمت، ولم تحقق منتهي الطموحات التي تعلقت بها، لكنها لم تخن، ولم تنهب ثروات الوطن، قدر ما ينبغي أن يدلنا ذلك علي مواضع الخطأ، فنتجنبها، وأسس النجاح، فنحرص عليها؛ ومن ثم نبتعد برؤى موضوعية عن دواعي تشتيت الجهود الوطنية؛ فليس أدعي إلي إخفاق الثورة، من محاولات احتكارها. والواقع أن أحاديث الماضي، علي النحو السابق الإشارة إليه، تمثل الغطاء المناسب لتسلل أعداء الثورة، وهم بالقطع ليسوا محل اشتباه، فهم علي وجه اليقين، رموز نظام مبارك الفاسد المستبد، وقد أفسدوا علي الناس حياتهم ومستقبلهم، وأنصار بديع ممن حملوا السلاح في مواجهة الشعب، وكانوا طرفاً في معادلات تصب نتائجها في غير صالح الوطن. ولا يعد تجاوزاً، ولا تزيداً، التأكيد أن بقاء أتباع مبارك وبديع في المشهد السياسي، هو أمر لا يصح أن تبدأ في ظله خطواتنا نحو صناعة المستقبل؛ فليس قبل أن تحكم الثورة، وترسي مبادئها، وتجعل من قيمها النبيلة ثقافة مجتمعية حاكمة، يمكن قبول عودة كل من نجح من «أعداء الثورة» في مراجعة مواقفه، فصوب وجهته باتجاه الإرادة الشعبية الحرة، وصحح مسار خطواته علي طريق العمل الوطني المشترك، تقوده في ذلك مسئولية وطنية لا ينبغي أن تغيب عن كل مشارك في صناعة المستقبل؛ فليس المستقبل إلا لمن يصنعه، بأدواته وآلياته. «الوفد»