اجتذبنى دوما عالم «محمد خان»، الفاتن،الذى حفل على مدار رحلته الإبداعية التى تمتد لنحو أربعين عاما ، بحياة البسطاء الفقراء والمهمشين والمقموعين الذين يقطنون الأحياء الشعبية، والعشوائيات، ولا يملكون من حطام الدنيا سوى أحلام بسيطة تأبى أن تتحقق، وتنكسر دائماً على صخرة واقع اجتماعى واقتصادى وسياسى وثقافى مر وقبيح، يلفظهم، ويرفض بحكم استبداده وتخلفه وفساده واستعلائه الطبقى، الاعتراف بحقوقهم المشروعة فى حياة انسانية كريمة، فبات كل هؤلاء أبطالاً لمعظم أفلامه، يتعاطف انسانيا مع أحلامهم وأشواقهم، وهزائمهم وانكسارهم، ويدفع الأخرين كى يحذوا حذوه، ويعلى فى كل الأحوال من نضالهم اليومى الجسور من اجل مواصلة الحياة ومحبتها فى آن واحد، برغم أنها ضنت عليهم بمسراتها ومتعها، ويسلط الضوء على الثراء الإنسانى الذى تنطوى عليه حياتهم، رغم بؤس أشخاصها وشقاء أحوالهم. التقط «محمد خان» نماذج مختلفة من قاع المجتمع المصرى فقدم همومها الحقيقية ككائنات بشرية لا أنماط ذهنية،، فى مزيج فريد من الرومانسية والواقعية ميز كثيراً من أفلامه التى شارك فى كتابة معظمها، ليغدو بذلك أحد كبار المجددين فى تيار الواقعية الجديدة فى السينما المصرية، هذا فضلا عن بصمته المتفردة التى طبعت اكثر من عشرين فيلما من أفلامه، التى تمثلت فى تقديمه للسينما العربية، لرؤية بالغة الجرأة والإنصاف والاستنارة لقضية المرأة، لم يسبقه إليها من حيث الكم والمضمون مخرج آخر، وهى رؤية تشتبك مع واقع اجتماعى مثقل بعادات وتقاليد بالية، ومحمل بتحيزات تاريخية موروثة، وتنتصر للقوى الكامنة فى المرأة التى ترفض الانسحاق والاستكانة، وتدفعها للتصدى بمكر الحيلة وذكاء الفطرة لكل ما يعوق تقدمها نحو امتلاك مصيرها، وكسر إرادتها والتشكيك فى أهليتها للمساواة، وحرمانها من الحياة التى ترغب فيها. وتظل المرأة فى أفلام «محمد خان» فى حاجة لدراسة أكثر تفصيلاً، لا تقتصر فحسب على الأفلام التى تناولت مسألة المرأة بشكل مباشر،كأفلام «أحلام هند وكاميليا» و«بنات وسط البلد» و«فى شقة مصر الجديدة» وفيلمه الأخير «فتاة المصنع» بل تمتد لتشمل نماذج النساء المنفرادت فى افلامه الأخرى ومن بينها: «موعد على العشاء» و«خرج ولم يعد» و«زوجة رجل مهم» و«يوم حار جداً» و«أيام السادات». فى فيلمه الجديد «فتاة المصنع» الذى كتبته بروح شعرية بالغة العذوبة والرقة السيناريست «وسام سليمان» يواصل «محمد خان» غوصه فى حياة النساء المهمشات، ليسلط الضوء على حياتهن العادية ،التى تختلط فيها الأفراح الصغيرة بالأحزان ، والمحبة بالبغض والرغبة فى الانتقام، والأحلام والأساطير بالواقع المرير. فبطلة الفيلم «هيام» ياسمين رئيس، ابنة الواحد والعشرين عاماً التى لم تكمل تعليمها، وتعمل فى مصنع لحياكة الملابس تأمل معنى الاسم ودلالاته تعيش مع أختها وأمها «سلوى خطاب» التى تزوجت من شاب يصغرها بعد وفاة والدها ،فى حى شعبى فقير تتجاور فيه المنازل بشكل يجرح الخصوصية ويبعث على التوتر. يحيط بهيام فى البيت وفى المصنع الذى تعمل فيه عالم من النساء لكل منهن حكاية مضنية. خالتها المطلقة «سلوى محمد على» عاملة التليفون التى تعمل سرا فى بيوت بعض المقتدرين، علاقتها بابنتها شديدة التعقيد والتوتر، لا تنجو مثل كل مطلقة، من دائرة الاتهام، حتى من ابنتها، إذا ما تأخرت ليلاً فى العودة اإلى المنزل. تتبادل هيام مع زميلاتها فى المصنع التعبير عن احتياجهن المادى والعاطفى، ورغبتهن فى الزواج من فارس الأحلام. وحين يتسلم المهندس الشاب صلاح «هانى عادل» موقعه الجديد كمشرف على عاملات المصنع، تتعلق به هيام، وترسم خططا للفت انتباهه لحبها له، لكنه لا يبالى بذلك، وحين تنجح فى زيارته فى منزله حين الم به المرض، متجاهلة الغلظة والفظاظة التى عاملتها بها أمه «ماجدة منير» والتى لا تخلو من استعلاء طبقى، إذ كيف تجرؤ مجرد عاملة على الإعجاب بابنها المهندس، تجمعهما قبلة عابرة تظن معها خطأ أنها نجحت فى جذبه إليها، لكنه تجاهل الأمر، وحين شاع أمر العلاقة بينهما فى المصنع، تتوجه أصابع الاتهام إليها ،حين تجد مشرفة المصنع شريط اختبار للحمل فى دورة المياه، لكن هيام لا تحفل بالرد على هذا الاتهام بالتفريط فى جسدها ، بل لعلها تسعى بصمتها لتأكيده، فاستسلمت لضربات الأم الموجعة ، واستدرجت لبيت جدتها وعماتها،اللاتى قررن بالعنف، قص شعرها الجميل الطويل ردا على خطيئتها، وربما انتقاما من أمها التى جرؤت على الزواج بعد وفاة والدها، وهو بالتأكيد مشهد فاضح ودال على علاقات القمع والإذلال التى يمارسها فى العادة ،المقموعون ضد بعضهم بعضاً! نجحت «وسام سليمان» بحساسيتها المرهفة ، وقدرتها المميزة على تكثيف التفاصيل وإضاءة اللحظات الفاصلة فى رسم الشخصيات بروح شعرية تشيع الأمل برغم جلافة الحياة وقسوتها، حيث تتحرك هذه الشخصيات لا نتزاع لحظات من البهجة والفرح، من قلب قسوة الحياة التى يعيشون فيها، بل ورغما عنها. ولعلها من المرات القليلة التى تقدم فيها السينما المصرية زوج الأم لا يغازل ابنة زوجته، بل ينهض للدفاع عنها، وعن شرفها ،حين يذهب مع إخوته لإحضار المهندس صلاح مضروبا إلى الحارة، لإجباره على إصلاح خطئه، لكن محاولة هيام الفاشلة للانتحار، تنتهى بأن يكشف طبيب المستشفى التى نقلت للعلاج بها لأهلها ،أنها لاتزال عذراء،وتنهى وسام سليمان الفيلم بمشهد يظل عالقا فى روح ووجدان وذاكرة مشاهديه، حين تقرر «هيام» أن تنفض عن روحها الشعور بالخذلان، والإهانة، وأن تتحرر من الآم هذا الحب المستحيل، وأن تتصالح مع نفسها، فتذهب إلى حفل زفاف المهندس صلاح على خطيبته، وتصعد إلى حلبة الرقص وترقص بدلال وكبرياء، وهى ترتدى فستانا يبرز فتنتها وجمالها فتصبح من فرط تلقائيتها، وفتنة رقصها، محطا لإعجاب واهتمام الجميع سواء فى حفل الزفاف أو فى قاعة العرض، وهو مشهد يستدعى إلى الذاكرة رقصة «أنتونى كوين الشهيرة فى فيلم «زوربا اليونانى» للتحرر من الألم واحتضان الحياة. فى فيلمه ساعد «محمد خان» فنانات موهوبات فى مكانة «سلوى خطاب» و«سلوى محمدعلى» و«ماجدة منير» على الكشف عن مناطق جديدة مميزة فى قدراتهن البليغة على التعبير، ربما لم نألفها مع غيره من المخرجين،، كما أهدى الوسط السينمائى، الفنانة «ياسمين رئيس»، التى تؤهلها موهبتها الطازجة المفعمة بالحساسية الفائقة، والحضور الآسر، والأداء السلس، لتصدر المشهد السينمائى فى العقود القادمة.