في شم النسيم يسترجع المرء الذكريات الطفولية في مسقط الرأس بدمياط، وتحديداً في بلدتي الزرقا التي لها حب خاص في القلب لا يضاهيه أي حب آخر.. في ذكري شم النسيم يحتفل الدمايطة والبورسعيدية بهذه الذكري في طقوس مختلفة عن باقي أنحاء البلاد.. حيث يسبق هذا اليوم بثلاثة أو أربعة أيام احتفالات خاصة في الشوارع، تتمثل في حرق الدمي التي يتم تصنيعها خصيصاً للحرق ليلة عيد شم النسيم.. وكنت وأقراني في الزرقا نسهر حتي مطلع الفجر نستمع إلي حكايات وروايات في جلسات سمر يشارك فيها الكبار قبل الصغار، وأذكر في هذا الصدد أن معلمي المدارس كانوا يتجاوزن عن غيابنا من المدرسة الابتدائية والاعدادية، لأن الجميع يترك أشغاله في الاحتفالات التي تسبق هذا اليوم الاحتفالي الرائع.. وعلي الضفة الشرقية للنيل في الزرقا، كنا نجري مسابقات السباحة ويحيط من حولنا العم «عبدالجواد» صاحب المركب الشهير، لإنقاذ من يتعرض منا للغرق.. صحيح أن معظمنا اكتشف بعد ذلك إصابته بمرض البلهارسيا التي حصدت الكثير من الأرواح من أبناء الدقهلية ودمياط. لكن الاحتفال بشم النسيم كان يعمي الآباء والأجداد عن الإصابة بهذا المرض اللعين.. لا يمكن أبداً أن تفارق الذاكرة هذه المشاهد الرائعة عندما كان العم «عبدالجواد»- رحمه الله ان كان ميتاً أو حياً- ينادي علينا عندما يري أحدنا يصاب بالإجهاد من السباحة.. ذكريات السمر التي كانت تتم علي ضفاف النيل كثيرة وأبرزها حكي قصص الاستعمار الفرنسي والبطولات الخارقة التي كانت تعطينا المزيد من الوطنية.. فالأهل في الزرقا وميت الخولي والزعاترة وشرمساح الذين سجلوا بطولات نادرة في الحرب ضد الغزو الفرنسي وهزيمة لويس التاسع عشر وكيف تم أسره في الزعاترة وترحيله إلي المنصورة وحبسه في دار ابن لقمان.. لقد علمنا أهلنا التاريخ الوطني الرائع من خلال هذه القصص في الليالي التي تسبق شم النسيم. وأذكر أيضا أنني حفظت السيرة الهلالية والبطولات التي سجلها أبوزيد الهلالي سلامة من خلال الأهل الذين كانوا يعقدون جلسات السمر هذه، ويوم التحقت بكلية الآداب بجامعة القاهرة، كنت قد عشقت الأدب الشعبي وأذكر أن الدكتور أحمد مرسي الأستاذ المتخصص في هذا العلم كان سعيداً جداً بما كنت أحفظه من السيرة الهلالية.. لقد سجل أهلنا تاريخاً رائعاً في هذه المناسبات التاريخية مثل شم النسيم خاصة في الليالي التي تسبق يوم العيد. وأذكر أنني كنت أحد المتمردين في يوم «السبت» الذي يطلق عليه «سبت النور» عندما كنت أرفض تكحيل عيني، وكانت أمي- رحمها الله- تستجيب لرغبتي في هذا الشأن، وأطلق عليّ أقراني في الزرقا المتمرد لرفضي الشديد لهذه العادة.. الذكريات في شم النسيم كثيرة أبرزها الذي تم حفره في الذاكرة هو حلقات السمر التي كانت تجري تحت أضواء القمر قبل أن تصل الكهرباء إلي قريتي الزرقا التي باتت الآن من أجمل وأحدث مدن الجمهورية، وفيها تعلمت التاريخ وعشقته والأدب الشعبي بطريقة فطرية ودرسته فيما بعد.