مازالت أنقى الثورات وأعظمها وأجملها. مازال رجالها هم الأعظم والأنجب ومازال رحيقها متناثراً فى سماء تاريخنا. ثورة 1919 هى الباعث الأول لروح مصر، والبانى الأول لفكرة الوطن والمواطنة، لذا لم أستغرب عندما فاجأنى الصديق الروائى أحمد مراد بروايته الجديدة « 1919»، وكأنه يذكرنا بأخطاء ثورة 25 يناير وخطايا ما بعدها فى ظل غياب تام لقيادة حقيقية، واتساع غريب لمؤثرات خارجية، ومحاولات متكررة لصناعة أبطال وهميين. مراد روائى شاب أثبت موهبة مبكرة جعلت منه واحداً من أكثر الروائيين جمهورا وأهلته أن يحصل على جائزة البحر المتوسط فى الثقافة ويرشح ضمن القائمة القصيرة للبوكر العربية هذا العام. منذ روايته الأولى «فيرتيجو» وهو يحمل صخرة الألم والإبداع فوق ظهره صاعدا جبل الاجادة بصبر وشاعرية. مجنون بالتاريخ، مستلهماً لصوره ومترجماً لعبره، بلغة شبابية جذابة يرسم لجيل الشباب الصاعد أذرع إلى تاريخ لم يكتب فى مناهج التعليم ولم يقدم فى الفضائيات. كعهدى به دائماً أهدانى الكاتب الجميل لوحة فنية ودرامية موثقة عن حياة المصريين فى ذلك الوقت، من خلال شاب مناضل ثورى هو أحمد كيره، وفتاة متعلمة ومناضلة هى دولت فهمى، وابن بلد شجاع هو عبدالقادر شحاتة، وفتاة هاربة من مذابح الأرمن اسمها ورد. شخصيات حقيقية نسيها الناس فذكرنا بها مراد بعمل ابداعى درامى يحول البطولة إلى لحم ودم، ورجال ونساء، وعقول وأفئدة، وقتلة وضحايا. يوثق الكاتب الموهوب حياة سعد زغلول الشخصية وسمات الزعامة المستحقة، وأدوار رجال رواد قدموا حياتهم فى عشق حقيقى للوطن دون انتظار مقابل مثل عبدالرحمن فهمى القائد السرى للثورة. الثورة ميلاد حقيقى للمصريين، وحماس الشباب لا حدود له، وسعد زغلول اسم يترنم به الناس كرمز للاستقلال والحرية، والوفد يقود الوطن نحو واقع أجمل وحياة أفضل. الشهداء يحفرون طريق الحرية، والسلطان يجاهد ليحافظ على عرشه، والفدائيون يقدمون أرواحهم هدية لوطن سعوا أن يحرروه من محتل متجبر. الخونة كثيرون، والانتهازيون أكثر وخاطفو الثورات يتسابقون لنيل مكاسب واستحقاقات الأمة المصرية. لقد كانت ثورة 1919 مدهشة ومازالت، ومولدة للشخوص والرجال، وصانعة للقيم والمبادئ، ومحررة للعقول والأفهام، وباعثة للروح والفداء. ورغم تغنى اليوليويين بثورة يوليو، ورغم انبهارنا بثورة يناير تبقى 1919 درسا بليغا وعظة خالدة وطريقا يحتذى لأجيال أتت وستأتى. إن الرواية التى كتبها أحمد مراد عن الثورة عمل بديع رائق سلس وقد تتحول إلى فيلم سينمائى مثل كثير من أعماله، لكنها مجرد بداية متأخرة للمبدعين والكتاب، لأن ثورة 1919 تحتاج لعدة روايات وقصص وأفلام ودراسات وتحليلات. والله أعلم