بعد خروجنا في ثورة العيش والحرية والعدالة الاجتماعية في 25 يناير، وبعد أن خرجنا في ثورة الهوية المصرية فى 30 يونية، كتبت أكثر من مرة عن أنطاع الأنظمة الحاكمة الذين يقفون ويتطلعون على أبواب الحكام ويحتلون المشهد الإعلامي والسياسي ويقتنصون جزءا من التورتة، وحذرت فى هذه المقالات من إفساح المجال لهؤلاء، وقلت إن البلاد يجب أن تتطهر منهم، وأن تغلق الأبواب فى وجه المتنطعين القدامى أو المتنطعين الجدد، لكن للأسف جميع الشواهد تؤكد أن الثورتين لم تنجحا حتى هذه اللحظة فى التخلص من الأنطاع، وأن الأحداث للأسف أتاحت الفرصة لظهور أنطاع جدد، وسبحان الله هؤلاء الأنطاع يحملون ملامح الفترة وثقافتها وأدواتها وآلية تفكيرها، وقد أثبتت الأيام أن من يسعون إلى الحكم لا يقدرون تحمل المسئولية بعيدا عن مجموعة لا بأس بها من الأنطاع. فى القواميس النطع هو المتشدق فى الكلام، وفي الحديث: هلك المتنطعون، وهم المتعمقون المغالون فى الكلام، وهم الذين يتكلمون بأقصى حلوقهم، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: إن أبغضكم إلى الثرثارون المتفيهقون. وفي حديث عمر، رضي الله عنه: لن تزالوا بخير ما عجلتم الفطر ولم تنطعوا تنطع أهل العراق أي تتكلفوا القول والعمل. ومنه حديث ابن مسعود: إياكم والتنطع والاختلاف، والنطع أيضا: هو بساط الجلد الذى يقتل عليه المحكوم عليه بالإعدام. وفى المفهوم الشعبي النطع هو الذى لا يمتلك أية مواهب سوى الوقوف على الأبواب، والنطع هو المتلطع والمتنطع الذى يفرض نفسه كخادم على الأثرياء وعلى الحكام لكى يقتنص حق غيره. فى المقالات السابقة حاولت أن أعثر على علاقة بين النطع فى المفهوم القاموسى اللغوى وبين النطع فى المخيلة الشعبية، واتضح أنه من الشخصيات التى تبيع نفسها وتسخر قدراتها لكى تحقق مصالحها، والطريف فى عملية البحث هذه أنني اكتشفت أن أهم ما يجمع بين النطع فى المعنى القاموسي والمعنى الشعبي هو الاستنطاع، حيث يمكنك تقسيم الأنطاع ما بين نطع يستنطع وبين نطع مستنطع، النطع الأول هو الإنسان الذى لا يمتلك ما يعينه على العمل أو الإضافة أو تقديم أى فائدة للآخرين ويعيش عالة على المجتمع وعلى زملائه، وخطورة هؤلاء أنهم ينجحون فى الحصول على ما لا يستطيعون الوصول إليه بقدراتهم العقلية والوظيفية، والذى يلتفت يمينا ويسارا فى أى مؤسسة أو مصلحة أو هيئة سوف يرى حوله بعض الأنطاع يقفون على الابواب ويفوزون بما كان لغيرهم، وكلما جاء رئيس للعمل وقفوا على بابه يستنطعون ولا يتركون الباب سوى إلى باب آخر ورئيس آخر ومصلحة أخرى، وهؤلاء الأنطاع تجدهم فى كل مهنة حتى فى المهن التى تحتاج إلى مواهب وقدرات خاصة، مثل الفن والسياسة والاعلام والصحافة، ومثل سائر المهن يفوز النطع بما هو أكبر من قدراته ومواهبه، لأن المسئولين فى الغالب يحبون الأنطاع ومن يتنطع عليهم، لأسباب عديدة منها استخدامهم فى تحقيق سياساتهم وبرامجهم، كما أنهم من خلال الانطاع يفرضون سيطرتهم على المؤسسات وعلى الرعية. المستنطعون هم النوع الثانى من الانطاع، وهم البسطاء من الناس أو هم غير المتنطعين الذين يقوم المتنطعون باستنطاعهم، وعملية الاستنطاع التي يقوم بها الأنطاع تتم من خلال القفز فوق حقوق الآخرين بالتنطع كما قلنا على أبواب المسئولين والحكام، وفى كل العصور يفوز الأنطاع بنصيب كبير من الكعكة، ويحصلون على حصص كانت لآخرين، وقد اقتنصوها بعد أن نجحوا فى تحويل الآخرين إلى مجموعة من المستنطعين، يشاهدون الأنطاع يتنطعون ويسرقون حقوقهم ويصمتون عجزا أو ترفعا أو خوفا أو جهلا.