كان الله في عون الشعوب العربية التي كلما وضعت ثقتها في فئة أو حركة أو جماعة، تبين لها فساد هذه الفئة أو الحركة أو الجماعة، وانكشف لها تآمرها من أجل مصالح شخصية، أو مطامع فئوية.
نقول هذا بمناسبة الأسرار التي نشرها الكاتب الصحافي عبد الرحيم علي، رئيس تحرير "البوابة نيوز"، في برنامج "الصندوق الأسود" الذي يقدمه، ويبث على قناة "القاهرة والناس" المصرية، والتي تضمنت مكالمات هاتفية مسجلة بين قيادات من شباب حركة "6 إبريل" التي تصدرت واجهة ثورة "25 يناير" المصرية.
هذه المكالمات التي انكشف من خلالها أن هؤلاء "الثوار" تلقوا تدريبات في "صربيا"، وحُوِّلت لهم أموال من الخارج، وتعاونوا مع الاتحاد الأوروبي وسفارات دول غربية لتمويل حركتهم، كما تعاونوا مع رجال أعمال هاربين ومتهمين بالفساد لتأسيس حزب سياسي، وأنهم اقتحموا مقرات أمن الدولة لسرقة ملفاتهم التي تحتوي على تفريغ لمكالمات تنم عن فضائح شخصية، وارتباطات بجهات خارجية، وتمويل أجنبي غير نزيه، لإحداث كل الفوضى التي شاهدناها على مدى السنوات الثلاث التي انقضت من عمر ما سُمِّي ب"الربيع العربي".
ومهما كان الرأي القانوني في إذاعة هذه التسجيلات، أو حتى تسجيلها، فقد كشفت المكالمات المسجلة أن قادة هؤلاء الشباب الذين اعتقدت الشعوب العربية، وليس الشعب المصري فقط، أنهم طلائع الثورة على الفساد، وفرسان مرحلة التغيير المنتظر، كانوا ضالعين في فساد من نوع آخر، وأنهم كانوا ينفذون أجندات خارجية، ويتلقون تمويلاً مشبوهاً من الخارج، ويتحالفون مع التيارات الأخرى، رغم الاختلاف الفكري والسياسي القائم بينهم وبينها، من أجل الوصول إلى الأهداف التي كانوا يرمون إليها، والتي ليس من بينها مصلحة الوطن الذي يدّعون أنهم يعملون من أجل تخليصه من الفساد والمفسدين.
انكشاف هؤلاء الشباب لا يقل دوياً عن انكشاف جماعة "الإخوان المسلمين"، التي كانت تزعم أنها جماعة إصلاحية دعوية لا تسعى إلى السلطة، وما أن واتتها الفرصة للوصول إلى السلطة حتى أمسكت بمفاصلها، وأقصت الجميع عنها، لتدخل البلاد في نفق مظلم، لا يعلم إلا الله إلى ماذا كان سيقود الجميع، ومتى سيخرج الجميع منه، حتى إذا ما انتزع الشعب منها السلطة تحولت إلى جماعة إرهابية، تنشر الخراب والدمار والقتل في ربوع البلاد، ليتأكد للجميع أنها أكثر حرصاً على السلطة من كل الذين سبقوها إليها، بغض النظر عن صلاحهم وفسادهم..
فعندما تكون الأوطان مهددة في أمنها واستقرارها، يصبح الحرص على غير هذا الأمن والاستقرار خيانة عظمى، يجب الأخذ على أيدي مرتكبيها، وإعادة عقولهم المسكونة بحب السلطة إلى رشدها.
إنها أزمة ثقة، مثلما هي أزمة أوطان تكتوي بنيران الصراع على السلطة، المتصارعون فيها يدّعي كل منهم أنه حريص على مصلحة الوطن، والصناديق السوداء تكشف يوماً بعد يوم كذب هذه الادعاءات وزيفها وبعدها عن الحقيقة.
وأثناء هذا كله، يتحول الوطن إلى سلعة يُتاجَر بها، ويتمزق أشلاء، يبدد لحمته أصحاب المصالح والمذاهب والأهواء، ويصبح الانتماء الوطني وهماً نبحث عنه وسط هذه الصناديق التي تفاجئنا كل يوم بالجديد مما لم نحسب له حساباً، فهل ترانا كنا مخدوعين إلى هذه الدرجة؟ وهل أصبحت عقولنا بهذا الحجم من السذاجة كي تغدو صيداً سهلاً لكل هؤلاء المتآمرين على مصالح الأوطان، المتحالفين مع أعداء الأمة؟
الإحساس بالخديعة هو الشعور الذي يتملكنا الآن، وهو إحساس بحجم الألم الذي يمكن أن يسببه الدخول من جديد في نفق البحث عن الحقيقة، التي لم يعد لها وجه واحد في زمن الأقنعة التي أصبح من السهل ارتداؤها، تماماً مثلما أصبح من السهل اكتشافها والكشف عن وجوه أصحابها.
لكن الأشد إيلاماً هو أن يتأخر اكتشاف هذه الأقنعة، وتتأخر بالتالي العودة إلى المربع الأول لبدء مرحلة جديدة يقودها المخلصون للأوطان هذه المرة، وخلال هذا كله، تتأخر الصحوة التي يتطلع إليها الجميع، ونستهلك الكثير من الوقت في تحري الدقة، كي لا نُخدع مرة أخرى، فهل سنمضي أعمارنا في هذه العملية العبثية التي لا تبدو لها نهاية؟ وهل يمكن أن تتحمل الأوطان كل هذا العبث الذي يضر بحاضرها ومستقبلها؟
يبدو أن نظرية "الأصابع" التي أطلقها الرئيس المصري المعزول "محمد مرسي"، لها جانب من الحقيقة، رغم أن الرئيس المعزول نفسه وجماعته ليسوا أبرياء من هذه النظرية، بل هم ضالعون فيها، خاصة بعد إقصاء الشعب لهم من الحكم.
وعندما تعبث الأصابع الخارجية بمصالح الوطن، وتتعاون معها أصابع داخلية، يصبح الكشف عن هذه الأصابع واجباً وطنياً، على المخلصين من أبناء الوطن أن يبادروا إلى أدائه، ويصبح قطع هذه الأصابع العابثة واجباً أيضاً، كي يعود للأوطان نقاؤها، وكي تحافظ الثورات على طهارتها، وكي تبقى عقولنا سليمة بعيدة عن الصدمات القاتلة.
تُرى كم من الصناديق السوداء ما زال مغلقاً؟ ومن الذي سيفتح هذه الصناديق؟ ومتى؟ أسئلة تبدو منطقية في ظل هذه الاكتشافات التي يراها البعض محبطة، بينما يرى البعض الآخر أنها خطوة مهمة لاكتشاف من يتآمر على الأوطان مرتدياً ثياب الوطنية.. ومن يقود هذا التآمر.. ومن يتعاون معه.. ومقابل ماذا يقبل التعاون معه.
صحيح أنها مرحلة من أصعب المراحل التي نمر بها، لكنها مرحلة مهمة وضرورية، كي نخرج من فترة الإظلام والإبهام التي نعيشها، والتي نتمنى أن تتمكن "الصناديق السوداء" من تبديد ظلمتها، وإخراجنا منها بأمن وسلام، محافظين على عقولنا سليمة مفكرة. نقلا عن صحيفة البيان الاماراتية