جاءني صديقي "عمر" منزعجًا مرتعبًا.. يسألني بلهفة وخوف: "هل الإلحاد دين جديد، لماذا انتشر في الآونة الأخيرة بمجتمعنا، خاصة بين فئة الشباب، ألم تُختتم الرسالات السماوية بالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولًا؟!". هدَّأتُ من روعه، وطلبتُ منه أن يسترسل في حديثه، كي أعي ما يقول، فأخبرني أن له صديقَين يدرسان معه في الجامعة، انقلبت حياتهما مؤخرًا، وصار التشكيك في كل ما حولهما "مذهبًا"، والخوض في الغيبيات "منهاجًا"، والحطُّ من شأن المقدسات أمرًا "اعتياديًا"!. إنهما يدَّعيان أن الكون وُجد بلا خالق، والمادة أزلية أبدية.. فهي "الخالق والمخلوق في آنٍ واحد"، وينكران وجود الله سبحانه "تعالى الله عمّا يقولون علوًا كبيرًا"، ويقولان بأن الكون والإنسان والحيوان والنبات وجدوا صدفة وسينتهون كما بدأوا، معتقدَين أن لا حياة بعد الموت!. إنهما والكلام لصديقي "عمر" يؤمنان بالنظرة "الغائية" للكون، وأن المفاهيم الأخلاقية تعيق تقدم العلم، كما يجاهران بإنكار معجزات الأنبياء، لأنها أمور لا يقبلها العلم كما يزعمان وهما أيضًا لا يعترفان بالمفاهيم الأخلاقية والقيم الراسخة.. إنهما ينظران للتاريخ باعتباره صورة للجرائم والحماقة وخيبة الأمل، فالمعرفة الدينية برأيهما تختلف اختلافاً جذريًّا وكليًّا عن المعرفة بمعناها العقلي أو العلمي، والإنسان في نظرهما مادة تنطبق عليه قوانين الطبيعة التي اكتشفتها العلوم كما تنطبق على غيره من الأشياء المادية. قبل أن أُجبه سألته: ما الجديد في ذلك؟، لم أدع له الفرصة ليجبني فالإلحاد لم يظهر مؤخرًا، كما تقول، بل يمكن القول إنه انتشر بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة، وذكرتُ له أن آخر إحصائية بحسب تقارير صحفية محلية وأجنبية تقدِّر عدد المُلحدين في مصر بأعداد تفوق الثلاثة ملايين!. يا صديقي: "إن الإلحاد مذهب فلسفيٌّ مفاده كل ما ذكرتَ على لسان صاحبَيك، بل هو بدعة جديدة لم توجد قديمًا إلا ما ندر في بعض الأمم والأفراد، وقد بدأت الحركات الإلحادية بالانتشار في العصر الحديث، بعد سقوط الخلافة الإسلامية، حيث حاول البعض في عشرينيات القرن الماضي، نشر الإلحاد في مصر، والطعن في العرب والعروبة طعناً قبيحاً، في محاولة بائسة لإعادة تاريخ (الشعوبية)، متهمين العقلية العربية بالجمود والانحطاط". إن الإلحاد كما نعتقد هو أحد الظواهر المعقدة التي قد تتداخل فيها العوامل الفكرية والنفسية والاجتماعية؛ ولذلك فإن تحليلها والبحث في أسبابها يحتاج إلى جهد كبير وبحث دقيق من المختصّين في الفكر والدين والفلسفة وعلم النفس والاجتماع. أكملتُ لهُ حديثي؛ محاولاً الردَّ على سؤال قاطعني به؛ عن أسباب لجوء بعض الشباب إلى الإلحاد، ضاربين عرض الحائط بالثوابت القائمة، فذكرتُ له أننا يجب أن نتأكد أولًا من كونها ظاهرة أم مجرد مشكلة عابرة تواجه الشباب، لأنه من الصعب أن نحكم حكمًا دقيقًا على تلك الظاهرة، فغالبية مَن يُلحد أو يترك الدين يكتُم هذا الأمر ولا يعلنه، خصوصًا في مجتمعنا المتدين الذي يصعب أن يُعلن فيه الإنسان هذا الأمر، ولكن كثيرًا من المؤشرات تؤكد أن الإلحاد واللادينية والشك موجود في بلادنا بشكل أكبر مما يتوقعه غالبية الناس، وخصوصًا بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين العشرين والثلاثين عاماً. سردتُ لصديقي "عمر" بعض الأسباب التي قد تدفع الشباب إلى الإلحاد، وأولها التطرف والجمود والاستبداد والقمع الديني والسياسي، ووجود تساؤلات كثيرة أربكت عقولهم ولم يجدوا لها إجابات مقنعة، فلم تكن الردود عليهم إلا كبتًا أو قمعًا أو ب "إخراس" ألسنتهم، بعيداً عن الحوار. ولعل الشباب يعتقدون أنهم بإلحادهم يثورون على العقلية الأسطورية، لأنهم يعيشون تناقضاً بين عالمي النظرية والواقع، كما أنهم سئموا من تقديس الأشخاص، فهم متشككون في جدوى القتل والحروب والعنف الذي يحصل باسم الدين، وهم أيضًا لا يحبذون فكرة القضاء والقدر، والتي تعتبر بداية طريقهم للإلحاد!. إن الملحدين يا صديقي يمقتون اليقين الكامل أو المطلق، فهم في حيرة من أمرهم بسبب تخلف الأمة وتمزقها وتفرقها، وهم مصابون بالجفاف الروحي والاندفاع والاعتداد بالذات والغرور المعرفي، وتتملكهم سطوة الشهوات ومحاولة الهروب من وخز الضمير، وعوامل أخرى تنبع من السطحية الفكرية، أو أسباب ناجمة عن اضطرارات نفسية، بل إن بعضهم يلجأ إلى الإلحاد لمسايرة العصر واعتباره "موضة فكرية". أنهيتُ حديثي إليه بمقولة الكاتب محمود علام "إننا نعيش متاهة الضياع الفكري والعقائدي منذ سنوات في ظل الشتات"!.