في غمرة انشغال الشعب المصري بالعرس الانتخابي الكبير الذي توَّج محمد مرسي كأول رئيس منتخب طيلة ثلاثة آلاف عام؛ كانت معركة داخلية، في وطن الحرمين الشريفين، حيال بيان أصدره مائة من العلماء وطلبة العلم في السعودية، وكانت له ردود أفعال متباينة، خصوصًا في مدينة جدة، التي شعر أهلها ببعض الحيف، وتحسّسوا من البيان، لدرجة أنني حضرت مجلسًا كريمًا، وإذا بصوت لكهل "جدّاوي" يصيح: "مين دُولا اللي يرموا أهل جدّة بالإلحاد؟.. الجدادوة أهل دين ومحافظة غصبًا عن كل المطاوعة، أصحاب البيان". فبكل احتداده وحنقه؛ كان يصيح مدافعاً ومتألماً من وصف مدينة جدّة بأنها وكر للإلحاد، بما شنّع بعض طلبة العلم الشرعيين، وربما كان المجلس الذي كنت فيه، وما فاه به ذلك "الجدّاوي" الغاضب؛ مثالاً لردود الأفعال حيال ذلك البيان، الذي لم يتطرق حقيقة للمناطقية التي شعر بها أهل جدّة. هل بلغ الإلحاد في السعودية ليكون ظاهرة، وليجعل مائة من طلبة العلم والأكاديميين يُصدرون بياناً صريحاً حياله؟، المعلومات والأرقام شحيحة، ذلك أنّ الملحد أو القريب منه لا يمكن له أن يعترف في بلاد التوحيد بإلحاده، غير أن ما كتبه بعض المتصدّين لهذه القضية، الذين حاوروا بعض الشباب، وما نقرؤه في بعض الشبكات الليبرالية ينبئان عن التثاث مجموعة من شبابنا وفتياتنا بهذه اللوثة الفكرية، فالاعتراف بالداء هو بداية الحل الصحيح. ولكن السؤالين المهمين: ما هي الأسباب؟ وكيف العلاج؟. الإلحاد قديم جداً، وصاحَب الإنسان عبر الحقب التاريخية، وأسئلة الوجود الكبرى تلك، وكُنْه الخالق - عز وجل - تلوب في نفس أي إنسان، بل حتى صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجدوا في صدروهم ما تحرّجوا منه، وهناك قصة سيدنا إبراهيم - عليه السلام - عندما قال له ربه: "أَوَ لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنَّ قلبي"، وربما لم يعرف مجتمعنا هذه اللوثة الفكرية بشكل واسع مثلما هو الحال اليوم، وأحيل السبب إلى هذا الانفتاح العولمي الكبير وتقارب الثقافات، وتوافرها أمام الأجيال الجديدة، بفعل "الميديا" المذهلة هذه، التي تضع كل المعرفة بخيرها وشرها أمام الشباب بضغطة زر واحدة. تتنوع أسباب وقوع الشباب في مستنقع الإلحاد، ولكن بالتأكيد أن كل حالة لها ظروفها، وأكيدٌ أن التأزُّمات والأمراض النفسية لها دور في بعض تلك الحالات. هناك أيضاً القراءات الفلسفية المعمقة، والدخول في نقاشات "الإنترنت" دون تحصين فكري حقيقي؛ يستطيع الشاب الإجابة عبْره عن أسئلة كبيرة، حارت فيها البشرية من قديم الأزمنة، واستنقذها الله بالأنبياء والرسل، وهو ما يدعوني لتدريس كتب الفلسفة في جامعاتنا، وتفنيد كثير من أفكارها برؤية إسلامية مقنعة. برأيي أن السبب الأهم، هو المرحلة العُمْرية التي يمرون بها، فهؤلاء الشباب مستعدون لتلقّف أي فكر يميزهم عن لداتهم، ويشبع نرجسيتهم العالية، خصوصاً أن الغرور المعرفي من قراءتهم المكثفة؛ أذكت هذه النرجسية. يحدثني د. علي الخبتي أنه إبَّان دراستهم في السبعينيات وبداية الثمانينيات، ووقت المد اليساري في العالم، اعتنق مجموعة من الشباب السعودي المبتعث هناك هذا الفكر، وانضموا لمنظمة "شبه الجزيرة" اليسارية التوجه، ولكنهم بعد كل تلك السنين تركوا تلك الأفكار، وكثيرٌ منهم عاد لإيمانه، بل بات بعضهم رموزاً للدعوة في السعودية.هناك مَن يقول إن التيار الديني عبر خطابه المتشدد - برأيه - سبب في هروب الشباب - الفتيات على الخصوص - للإلحاد، فالخطاب الديني المقدَّم يحتاج لكثير من التطوير ومخاطبة عقول الشباب الجديد، وهم لا يجدون الإجابات الشافية للأسئلة الوجودية التي تلوب في نفوسهم، فهل يتحمَّل أحبّتنا الشرعيون وزر هؤلاء الشباب؟. ذكَّرتني التهمة بمقولة منسوبة لمحمد الغزالي- يرحمه الله- نصها: "نصف أوزار الملحدين في هذا العالم يحملها متديِّنون كرَّهوا خلق الله في دين الله"!، أشار إلى ذلك الزميل منصور النقيدان في مقال له (جريدة الرياض ، 16/5/2010) قائلاً: "هل للتدين اليابس السلفي تأثير سلبي على أتباعه، بحيث يجعل من احتمال انسلاخهم من الإسلام أو علوقهم في مرتبة البيْن بيْن"، ويضيف: "الذي يتأمل في إسلام مسلمي المَلاوي، وخصوصاً الإندونيسيين، فسوف يلحظ أن فهمهم العَلماني للدين نابع من غلبة التصوف وسيطرته؛ لهذا فمن النادر أن تلتقي بأندونيسي ملحد". ربما لا أميل كثيراً والزميل النقيدان في وصفه للتديّن السلفي باليابس، وأستطيع سرد قائمة لا تنتهي من المشايخ والدعاة المنتمين للمدرسة السلفية، لديهم الحس الرُّوحاني العالي، ولكني أضع علامة استفهام في طريقة تعامل بعض شرعيِّينا في مخاطبة الأجيال الجديدة وإقناعهم عن طريق العقل. كتب أحد أبرز دُعاتنا المتصدين لهذه الظاهرة الصديق عايض الدوسري، في أحد المواقع الإلكترونية عن ذلك وقال: "لقد حدّثني أحد الشباب - الذين تأثروا ببعض الشبهات - أنه ذهب إلى أحد العلماء الكبار؛ كي يدفع عنه آثار تلك الشبهات بالحُجج العقلية والنقلية، فإذا به يُصدَم بهذا العالِم الجليل وهو يطرده من مجلسه، ويُهدده باستدعاء الشرطة!". أعود للصديق "الجدّاوي" المتألّم، وقد أجبته - في ذلك المجلس - بأنّ هذه الآفة ليست حِكراً على جدة دون غيرها من المناطق، بل هي آفة سربلت الوطن بكامله، ومن الظلم الشنيع القول بأن الدعاة لمزوا مدينة جدة بالإلحاد. ولعلني أكرر مناشدتي هنا لمعالي وزير الشؤون الإسلامية صالح آل الشيخ بأن يتصدى شخصياً لهذا الموضوع، ويجعله اهتمامه الأكبر، وينشئ قسماً متخصصاً، يُشرف عليه فريق له صلاحيات كبيرة، ويُجلَب إليه المفكرون والمتخصصون للإجابة بطريقة عقلانية عن أسئلة الشباب والفتيات التي لا يجرؤون على طرحها علانية، وتبقى في أنفسهم لينحرفوا شيئاً فشيئاً، وإلا والله ستكبَر كرة الثلج الصغيرة هذه بما لا تتوقعون. أيها المسؤولون بالسعودية: أدرِكوا الإلحاد وحجِّموه قبل أن يكون ظاهرة.