أعلم مسبقا أن كلماتى ستثير غضبهم ، لأنهم سيتحسسون رؤوسهم فيجدون عليها " البطحة " بل قل الوصمة ، وصمة العار بجبينهم ، تلك المجموعات الهائلة من مدعى الصحافة أو الكتابة وأيضا النشطين السياسيين ، الذين ظهروا فجأة بعد ثورة يناير فى الفضائيات ووسائل الاعلام الغربية ، كخبراء فى الاعلام وفى السياسة المصرية وفى اقتصادها واجتماعها ، ولا أعرف متى صاروا خبراء ، وأعمار معظمهم لم تصل حتى للعقد الثالث من العمر ، وهل هناك جهة ما مثلا منحت هؤلاء شهادة الخبرة فى أيام ما بعد الثورة ، دون أن تبصرهم بأهمية الكلمة ، وبخطورة ما يقولونه من وجهات نظر، تفتقد للوعى السياسى والبعد الاجتماعى والثقافى ، دون أن يعرفوا أن الكلمة أمانة وشرف ، وأنه بكلمة واحدة تقوم حروب أو تهدأ صراعات ليعم السلام ، بكلمة واحدة تنهض دول أو تهدم ، تحيا شعوب أو تموت أمم . الكلمة تلك التى حمل الله امانتها للبشر دون سائر المخلوقات ، فانطقنا بكلمة منه ، وجعل لحكمة ما ، قوة الكلمة أكبر من قوة الحياة ، فعندما نموت نصمت عن الكلام ، رغم ذلك يبقى صدى ما قلناه من قبل ، كلمات يرددها آخرون بعدنا ، أى أن الكلمة لها قوة أكبر من الحياة والموت ، لهذا فهى أمانة وشرف . لزم قول ذلك لهؤلاء الذين ازدحمت بهم فجأة صفحات الصحف والمجلات المصرية والعربية من كتاب وخبراء بعد الثورة ، بل ووسائل الاعلام الغربية من المراسلين المصريين ، ومن يتم استضافتهم والتحاور معهم على انهم خبراء ، ما حدث من تضخم ..ترهل ..تمدد ..تفسخ ..تنطع فى حجم الأعمدة بالصحف على كافة توجهاتها ، تمدد بات يفوق حجم التظاهرات الفئوية التى أصبحت صرعة فى مصر ، بل ان زخم الخبراء الجدد ، بات يقارب عدد من ينسبون لأنفسهم قيادة الثورة ، مع توزع الألقاب بين خبير ، نشط باحث ، دارس ، وغيرها من الألقاب ، التى توزعت فى عهد الثورة بين بطولات وهمية وخيالية ، تفوق حواديت ألف ليلة وليلة ، رغم إننا لم نكن نسمع عنهم شيئا من قبل . وكأن هدية الثورة كانت تسليم قلم وشهادة خبرة لكل مواطن ليكتب كيفما شاء ، وينصب نفسه خبيرا كيفما شاء ، ويوزع افكاره الغريبة هنا وهناك كيفما شاء ، ويقود الرأى العام كيفما يشاء ، وينسب لنفسه صولات وجولات فى عالم البطولات الوهمية ضد النظام السابق كيفما يشاء ، ويختلق من مخيلته قصصا وحواديت مع من كانوا أصحاب النفوذ والسلطة فى النظام السابق المخلوع ، ولم لا ، وقد بات عهد مبارك بفساده وليمة ، يولم منها كل منتقم أو جائع ، او راغب فى الظهور ، وحامل راية الشهادة أو العنترة ، فيما يتوارى الشرفاء الحقيقيون غالبا خجلا ، من دخول حلبة الصراع أو قل النفاق . أعلم أن النظام السابق كمم الأفواه ، وقيد الحريات ، وكسر أقلام ، لكن المثير ، أن من تضرروا حقيقة لم يظهروا غالبا على الساحة الاعلامية ، بل سبقهم إليها كثيرون ممن ليس لهم علاقة بهذا العصر من الجهاد بين الحق والباطل ، و كان الظهور غالبا ولا اقول إجمالا للمتطفلين أصحاب المزاعم والمغارم . وأنا لست ضد أن يكتب كل انسان ما يراه ويعبر عن رأيه بحرية ، حرية الرأى مكفولة للجميع بموجب أى دستور فى العالم ، ولكنى ضد أن يتحول هؤلاء فجأة الى كتاب رأى وخبراء فى الشئون المصرية على كافة جبهاتها ، دون دراية أو وعى حقيقى أو علم بما يكتبونه ويقولونه ، حتى وإن تحولت كلماتهم الى سهام سامة فى قلب الوطن ، وتقاريرهم وآراؤهم ،إلي أفكار هدامة لوأد احلام وطموحات المصريين ما بعد الثورة . نعم اعترف انى غيورة على مهنتى ، وغيورة على الكلمة ، وغيورة على استخدام كل كلمة فى موضعها ، وتعلمت فيما تعلمت ، ان للكاتب أو الخبير الاعلامى المتخصص سياسيا واقتصاديا واجتماعيا مواصفات ، اهمها الثقافة المصقولة و النضج ، ليس بالضرورة نضج سنوات العمر ، بل نضج الفكر ، أن يكون واعيا ومدركا لأبعاد وخطورة ما يقوله ، وأن هناك من سيقرأون ، ويتأثرون بكلماته ، لأنه صار من موقعه أحد قادة الرأى والفكر فى وطنه ، وعليه أن يحكم ضميره ، وأن يعرف تماما ما يقوله ، ولمن يوجهه ، وأهمية ما يقوله ، وردود الفعل حوله ، وأن يتحمل قبل وبعد ذلك مسئولية كل كلمة يقولها امام الله و ضميره والوطن . و أكثر ما أرفضه هؤلاء الذين ظهروا مؤخرا فجأة ، من اصحاب الاعمدة وكتاب الرأى والتقارير من الصحفيين المصريين فى المطبوعات الاجنبية ، الذين سخروا اقلامهم للتجسس العلنى على مصر ، بإرسال كل ما يدور فى شوارع وحوارى مصر ونبضها فى الوقت الحالى للخارج ، لينشر فى صدر الصحف غير المصرية ، وفى واجهات مواقعهم الالكترونية . ومعلوم أن معرفة الاخبار عن أوضاع أى بلد فى مرحلة التحول السياسى أو التوتر وعدم الاستقرار ، خاصة الاوضاع الاقتصادية التى تمثل وتشكل ثقل الثقة الشعبية والاداء الحكومى لدى المواطنين ، هو الأهم لمن يتربصون بمصر وثورتها الآن ، وهو ما يقوم به بعض الاعلاميين " الجوعى " فاقدى الانتماء ، ويقدمونه لمراكز الاعلام والاذاعات والصحف الاجنبية عبر المراسلة ، لقبض حفنة دولارات ، وقرأت فى موقع اذاعى أجنبى ، تقريرا لأحدهم ، أجرى خلاله حوارات دقيقة مع فقراء الحوارى والازقة ، وأرسل تقريره ليقول ما معناه ، إن المصريين بعد الثورة صاروا أكثر فقرا وفقدانا للثقة فى المستقبل ، مقارنة بما كان عليه الحال فى عهد الرئيس المخلوع . وبالطبع يمكن لإسرائيل أو أى عدو لمصر ، أن يرسل مراقبيه وعملاءه لعمل هذه التقارير ، إلا أن عمل التقارير بأياد مصرية ، هى بالطبع الأدق والأصدق لديهم ، لأنها بأيد مصرية من الحضيض المصرى ، وتعري المثالب والسلبيات بلا حياد ، وبصورة منحازة ، بعيدا عن أى إيجابيات . وهو ما يحدث فعلا الآن ، فترى صحفيا شابا من هنا أو هناك ، التقطته مطبوعة اجنبية أو محطة إذاعية ليكون مراسلها ، ليوافيها بتقارير دقيقة عن الحالة الاقتصادية والاجتماعية واستطلاع آراء الغلابة فى المزابل ومقالب القمامة ، وبين سكان القبور ، ليقدمهم للخارج على انهم الفئات الغالبة فى مصر ، تحت اسم المراسلة أو كتابة الرأى الحر، وهو يعلم جيدا أنه صار عينا للخارج على مصر ، ومرصدا لمواطن ضعفها ، وثغراتها الاجتماعية ولا يقدم فى المقابل أى واجهة او صورة مشرقة لمصر ، ولو من باب الدعاية أو حتى الترويج السياحى . وغالبا ما يعرف الشاب الصحفى ، الذى وجد نفسه فجأة "عليه الطلب "، وبات مرموقا يكتب اسمه مرفقا بصورته ، أو يذاع صوته فى تلك الوسائل الاعلامية ، غالبا ما يعرف الهدف الحقيقى من تلك التقارير المطلوبة منه ، لكنه يتجاهل ، ويتعامى من أجل المكسب عل حساب كرامة شعب مصر وحساب خصوصيتها ، ولتصبح تلك الفئات المعدمة هدفا من أعداء مصر ، لاستقطابهم وتجنيدهم للعمالة والتجسس ، وهدفا لإرساليات التبشير ، او حتى التهويد مقابل المال ، وبؤرا لنشر الاخلاقيات والافكار الفاسدة المستوردة مع المساعدات السرية . لذا أطالب ضمن ما تطالب به فئات الشعب ، ان تعيد المؤسسات الصحفية النظر فى هذا الزخم من الكتاب والخبراء لتتم الغربلة ، وأن يتم تشديد الرقابة على من يقومون بدور المراسلة للمطبوعات الاجنبية ، وأن يدرك هؤلاء أن كل كلمة يبيعونها للخارج على حساب مصر ، هى وصمة عار فى تاريخهم وتاريخ الاعلام المصرى ككل. الحرية أن تقول ما تريد ، ولكن لا تؤذى الوطن بما تقول وتتعمد فى نشر الغسيل " الوسخ " على انه كل شئ فى مصر ، على الاقل أن تكون حياديا ، ألا تبيع نبض الشارع المصرى وآلامه ، وتتاجر فى طموحاته وأحلامه . اننا فى مرحلة تتطلب أن نكون جميعا كتابا وطنيين ، لبث الأمل ، ولإحياء روح العمل والكفاح لدى الشعب ، و لنشر الوعى والانتماء وإيقاظ حب الوطن ، أن نتحول الى دروع واقية تحمى الوطن من طعنات اعدائه ، ألا نحول أسنان أقلامنا الى رماح نطعن بها قلب الأم الحنون تحت مزاعم حرية الرأى والقلم ، ألا نبيع دماءها للخارج فى كلمات من أجل اليورو أو الدولارات .