تحدثنا أمس عن تعاون دول حوض نهر الدانوب وعددها 7 دول أوروبية، إلي الاتفاق- ومنذ 157 عاماً - علي اتفاقية لتنظيم استخدام نهر الدانوب.. وكيف نفذت وأنشأت عدداً من القنوات لربط النهر وفروعه.. ثم أيضاً إنشاء محطة لتوليد الكهرباء لخدمة أكثر من دولة.. ولما كانت الحروب لا تصلح لإقامة علاقات طيبة، خصوصاً الآن، فإن هذه الدول السبع أقامت منظمة إقليمية لاستغلال النهر لمصلحة الكل.. رغم أنها دول اشتهرت بالحروب الشرسة ضد بعضها البعض.. واليوم نقدم مثلاً آخر للاتفاق علي استغلال الدول المتشاطئة، أي التي تقع علي مجري نهر واحد، لمصلحة الكل.. تلك هي - هذه المرة - في جنوب شرق آسيا.. إنه نهر الميكونج.. ونهر الميكونج ينبع من شرق التبت، وهو أطول أنهار شبه جزيرة الهندالصينية وطوله 4000 كيلو متر، ويشكل جزءاً من الحدود بين تايلاند أي سيام القديمة.. ولاوس ثم ينطلق من لاوس إلي كامبوديا وفيتنام قبل أن يصب في بحر الصين قرب مدينة هوشي منه، وان كان يعرف في منطقة الدلتا السفلية باسم نهر سيجون. ورغم أن السفن لا تستطيع الإبحار في الميكونج سوي مسافة 550 كيلو متراً لأن باقي المناطق الداخلية البعيدة تعترضها المنحدرات والمرتفعات الرملية إلا أن هذه الدول رغم تباين مواقفها السياسية استطاعت أن تتفق ومعها الصين التي تحكم التبت الآن علي انشاء منظمة دولية لإدارة هذا النهر، تماماً كما اتفقت دول الدانوب عام 1856. وإذا كانت دول نهر الدانوب وعددها 7 دول، ودول حوض نهر الميكونج عددها 6 دول.. فإن دول حوض نهر النيل عددها الآن 11 دولة.. وهذا أدعي إلي الاتفاق علي تنظيم إدارة واستغلال نهر النيل.. وهذا ما اقترحه الدكتور بطرس غالي سكرتير عام الأممالمتحدة السابق، والسياسي المصري الذي نفّذ سياسة ناجحة أحدثت تقارباً كبيراً بين مصر ودول إفريقيا.. وعلينا أن نرمي جانبا فكرة استخدام القوة لتأكيد حقوق مصر التاريخية في مياه النيل.. وكفي الفضيحة التي تمت في حضور الدكتور محمد مرسي عندما كان رئيساً، وتحدث فيها بعض الجهلة ممن يرتدون كهنوت السياسة عن استخدام القوة لضرب سد النهضة الإثيوبي.. ونعترف بأن إثيوبيا - ولها عداءات تاريخية مع مصر حتي قبل أن يرسل الخديو اسماعيل الجيوش المصرية لضربها عامي 1875 و1876 استغلت انشغال مصر بثورتها في يناير 2011 ضد الرئيس مبارك، وثورتها ضد الإخوان في يونيه 2013 لكي تنطلق في تنفيذ أول مشروعاتها الكبري علي النيل الأزرق، وبعد أن كان التصميم الأولي للمشروع لا يسبب ضرراً كبيراً لمصر فإن إثيوبيا أجرت تعديلات ليتحول إلي مشروع عملاق يهدد فعلاً حصة مصر.. وبالذات خلال عملية تعبئة الخزان.. فضلاً عن أن من تولوا مسئولية وزارة الري المصرية لم يكونوا كلهم علي المستوي العلمي والمائي والسياسي.. كما يجب.. والآن.. وقد أصبح المشروع الإثيوبي حقيقة واقعة.. فإن كل ما تطلبه مصر هو تقليل هذه الأضرار.. وذلك لن يكون إلا بالاتفاق علي إطالة مدة تعبئة هذا الخزان إلي 10 أو 12 عاماً بدلاً من 6 سنوات كما تخطط إثيوبيا.. وواضح أن اللجنة الثلاثية التي اجتمعت في الخرطوم أول من أمس وضمت وزراء مصر والسودان واثيوبيا لم تتفق علي أي حل.. هنا يجب أن تتحرك الدبلوماسية المصرية في أكثر من اتجاه، الاول إقناع دول إفريقيا بأن تقلل ما أمكن من عدائها لمصر.. ومصر هنا هي المسئولة .. والثاني هو اقناع اثيوبيا بأن الحل السلمي هو الأفضل، ونطرح مشروعات مشتركة ليس فقط لاستخدامات مياه النيل.. ولكن علي كل المستويات الزراعية والصناعية والتجارية.. والثالث هو طرح فكرة انشاء منظمة دولية تضم كل دول حوض النيل «11 دولة» لتنظيم استغلال مياه النيل من منابعه إلي المصب.. وإقامة مشروعات مشتركة لخدمة الدول علي جانبيه.. ومنها مثلاً مشروع استخدام النيل كممر مائي نهري ينقل تجارة وصادرات وواردات دول النيل- ومعظمها دول غير بحرية مثل إثيوبيا نفسها وجنوب السودان ورواندا وبوروندي.. لكي تصل تجارتها إلي البحر المتوسط شمالاً ومن ثم إلي اوروبا.. تماماً كما نجحت دول الدانوب.. وعندما تتحقق المصالح المشتركة.. يسهل الاتفاق بدون حروب علي تحسين استخدام مياه النيل التي يضيع أكثر من نصفها دون أن تستفيد منها أي دولة..