سمعت عن رواية ساق البامبو، ولكنني عزفت عن قراءتها، الا ان عنوانها أثار فضولي «ساق البامبو» ماذا يقصد كاتب الرواية بهذا الاسم؟! أمسكت بالكتاب وأنا على الفراش قبل النوم عسى ان أعرف الموضوع من الصفحات الأولى، وللغرابة لم أشعر بنفسي الا بعد ان انتهيت من ثلث الرواية، وفي اليوم التالي اعتذرت عن كل ارتباطاتي وعشت مع الكاتب الكويتي الشاب سعود السنعوسي في روايته «الفلتة» طول اليوم الى ان انتهيت منها، ولكن يبدو ان هذه الرواية لم تنته مني فمازلت أحملها في ضميري منفعلا ومتفاعلا مع كل أحداثها. اجتاحتني الحيرة وأنا أتصفح الصفحات الأولى حتى أنني كنت أعود للغلاف بين الحين والآخر متسائلا: من الذي كتب هذه الرواية؟ هل هو سعود السنعوسي؟ أم عيسى بطل الرواية؟ وهل الرواية مكتوبة باللغة الفلبينية وترجمها المترجم ابراهيم سلام للعربية؟ أم ان السنعوسي لجأ لحيلة روائية بحيث يجعل الراوي بطل الرواية يقص أحداثها علينا وكأنه هو المؤلف؟ ولكنه نجح في أكثر من ذلك حيث جعل القارئ يعيش مع الرواية كأنه أحد شخوصها. عشت مع عيسى المغترب بطل الرواية قبل ان يولد من خلال أبيه راشد الكويتي الحالم المجدد الذي يحب وطنه حتى النخاع ويكره له حالة الجمود التي تركن للتقاليد وتأنف من التجديد، عشت معه من خلال أمه الفلبينية التي ارتفع خيال طموحها فأرادت ان تكون شيئا له قيمته في وطنها، وعندما ضاق بها السبيل بسبب وضع أسرتها الاجتماعي وذلك الفقر الذي أحنى ظهرها، فتركت طموحها وحبها للقراءة وشغفها بالروايات العالمية وحكمة الأولين الى حيث العمل كخادمة لدى أسرة كويتية عريقة، حتى العمل كخادمة لم يكن ميسرا لها بل كان دونه خرط القتاد، وعشت مع عيسى وهو بعد وليد، قطعة لحم صفراء، يحمل الوجه الفلبيني ذلك الوجه الذي أضناه والنسب الكويتي، ذلك النسب الذي رفضه، ما أحكم عيسى الذي هو هوشيه، وخوسيه، وجوزيه، صاحب الوطن الضائع والأسماء العديدة التي تشي بأنه كساق البامبو لا وطن له، ما أحكمه وهو يحاكم أمه وأباه، يحاكم أمه وبينه وبينها آلاف الأميال، ويحاكم أباه وبينه وبينه برزخ يقطع الطريق بينهما الا من خلال أمنيات وأحلام عيسى، يخاطبهما: هل كل دوركما ان تأتيا بي الى الدنيا من غير ان تفكرا في مصيري! أنا في الفلبين مرفوض وفي الكويت مرفوض، أنا لا وطن لي، أنا المغترب حتى في وطنه، يالها من قسوة حين أخذني الشرطي الى الحجز على ظن منه أنني فلبيني ليست لي اقامة، وأنا كويتي مهما قال وجهي غير ذلك، أنا المهان في وطنه، نعم أحببت قلوب أهل الكويت وطلاقة وجوههم وجنون شبابهم اللذيذ، ولكن الكويت لم تحبني، لم يحبني منها الا أختي خولة التي رفضت في البداية ان تخلع حجابها أمامي وقالت: انها لم تشعر بعد أنني أخوها، ولكن حين شعرت في لحظة فارقة من أحداث حياتي احتضنتني وقلب الأخت يهتف لي: لا تغادر، ان الكويت وطنك وأنا أختك، أهلك، أحبني أيضا غسان صديق أبي ذلك الصديق الذي ظلمه وطنه وظلمته جدتي ثم ظلمته أنا، أحبني الأصدقاء المجانين، ولكن الحب لم يعطني جواز المرور لوطني، كنت أتمنى ان أجهش بالبكاء في مواقف كثيرة ولكنني كنت أبكي في داخلي، واذا فاضت بي مشاعري تغرورق عيني بالدموع، ومع ذلك فانني كنت أحب الجميع، جدي الفلبيني الذي ما فتئ يشتمني كلما رآني وكان يكلفني بما لا أطيق من الأعمال، وأحببت أمي وخالتي وأخي من أمي الذي تسببت دون ان أقصد في اضاعة عقله، وأحببت ابنة خالتي التي تكبرني وتمنيتها، وضاعت مني سنوات طويلة الى ان..الى ان قدر الله ما أراد، أحببت جدتي غنيمة أم أبي التي كانت تكرهني وتشمئز مني، الا أنني كنت واثقا من ان خلف جبل الجليد الذي يتراكم في قلبها مشاعر متأججة، كانت تحبني، نعم كانت ولكن الجليد حينما يتحول الى ماء يطفئ نار الحب، وأحببت السلحفاة التي اشتريتها وكانت شريكتي في حجرتي، وأحببت عماتي كلهن، من وقفت ضدي ومن تحفظت معي ومن لم تبذل الجهد الحقيقي للانتصار لي، أحببت كل الناس في الكويت، وكل الناس في الفلبين، حتى الأديان، أحببت كل من يتجه الى الله بطريقته وأدركت ان طريق الله هو الحب، فكنت كاثوليكيا وبوذيا ومسلما، من ليس له وطن لا يجوز ان يستقر على دين، كل الأديان دينه، ويالها من لحظة دخلت فيها الى المسجد بالكويت أصلي وأنا أحمل الصليب، كانت لي صلاتي الخاصة بي، المهم ان تحب الله، وأن تستسلم له هو دون غيره، أنت حينئذ حبيب الله. سعود السنعوسي أعتذر لك فأنت روائي متفرد، وأظنك ستبلغ العالمية قريبا وستكون روائي العرب الأكبر، الا أنني أشفق عليك، فأنت بدأت من القمة فحافظ عليها في أعمالك القادمة، فهناك جوائز أكبر تنتظرك، أما الجائزة الكبرى فقد حصلت عليها فعلا وهي حبنا لك. نقلا عن صحيفة الوطن