تصنع مصر الآن دستورها وفقاً للآلية التي وردت في خارطة المستقبل السياسي، حيث قامت لجنة الخبراء بوضع مقترحاتها التي تدرسها الآن لجنة الخمسين والممثلة للقوى والاتجاهات السياسية والمجتمعية المختلفة، تمهيداً للوصول إلى المرحلة النهائية من صناعة الدستور وهي عرضه على الاستفتاء الشعبي، وتنظم الدساتير كما هو معلوم العديد من الأمور المهمة والحيوية في حياة الدولة والمجتمع مثل شكل نظام الحكم والسلطات في الدولة وعلاقة هذه السلطات ببعضها البعض فضلاً عن اختصاصات رئيس الدولة، والنظام الانتخابي والحقوق والحريات الأساسية للأفراد وغير ذلك من القضايا المهمة التي تنظمها الدساتير. ويعتبر شكل نظام الحكم من القضايا المهمة التي يثيرها الدستور المصري الذي يتم إعداده الآن ولذلك يكون من المرغوب فيه أن يكون شكل نظام الحكم الذي يتم إقراره في الدستور هو الأكثر مناسبة لمصر في ظروفها الحالية وعقب ثورتين قام بهما شعب مصر في فترة زمنية لا تتجاوز العامين ونصف العام، فنظم الحكم الرئيسية المتواجدة في العالم تتمثل أساساً في النظام الرئاسي والنظام البرلماني والنظام المختلط أو ما يطلق عليه النظام البرلماسي ولكل نظام من هذه النظم سماته وخصائصه المميزة، فالنظام الرئاسي هو ذلك النظام الذي يعتمد على وحدة السلطة التنفيذية واتساع سلطات واختصاصات رئيس الجمهورية، الذي يمثل قمة الجهاز التنفيذي والمحرك له ولا يعرف منصب رئيس الوزراء، ويأخذ هذا النظام أيضاً بفكرة الفصل بين السلطات وإن كان هذا الفصل ليس جامداً من الناحية العملية أو الواقعية والنموذج التقليدي لهذا الشكل من نظم الحكم هو النظام الأمريكي. ويعكس النظام البرلماني تراجعاً كبيراً في مهام واختصاصات رئيس الدولة، بحيث تكون سلطاته شرفية، وتتركز السلطة التنفيذية في يد رئيس الوزراء الذي يعتبر بمثابة المحرك للجهاز التنفيذي بأكمله وهو زعيم الحزب الذي يتمتع بالأغلبية في البرلمان ولذلك تستمد سلطاته واختصاصاته من الإرادة الشعبية التي تجعل من حكومته حكومة منتخبة، وتتسم العلاقة بين السلطات بالتعاون والتآزر، والمسئولية التضامنية للحكومة التي تخضع لرقابة ومحاسبة البرلمان، ولعل النموذج التقليدي لهذا النظام من نظم الحكم هو النظام البريطاني. ويجمع نظام الحكم المختلط أو ما يطلق عليه النظام البرلماسي بين بعض خصائص النظم البرلمانية وبعض خصائص النظم الرئاسية، فهناك بعض الاختصاصات المهمة التي يمارسها رئيس الجمهورية منفرداً، بينما توجد مهام واختصاصات أخرى يمارسها رئيس الجمهورية من خلال مجلس الوزراء، أي يوجد في هذا الشكل من أنظمة الحكم بعض سمات النظم الرئاسية ولعل أهمها دور ومهام رئيس الجمهورية في بعض المجالات الحيوية، بينما يعرف بعض سمات وخصائص النظم البرلمانية مثل مسئولية الحكومة أمام البرلمان وازدواجية السلطة التنفيذية وغيرها، ويمكن أن يكون النظام المختلط أقرب إلى النظام البرلماني إذا تزايدت فيه سمات النظم البرلمانية، كما يمكن أن يكون أقرب إلى النظم الرئاسية إذا تزايدت فيه سمات وخصائص النظم الرئاسية، والنموذج الهام لهذا الشكل من أنظمة الحكم هو فرنسا منذ دستور الجمهورية الخامسة. وتأسيساً على ذلك فإن إحدي القضايا المحورية التي سيعالجها الدستور المصري هي ما يتعلق بشكل نظام الحكم الأفضل والأنسب لمصر ويمكن في هذا الإطار الإشارة إلى الملاحظات التالية: 1 - إن العبرة أو الأهمية ليست في الصياغات النظرية فقط بل فيما يسفر عنه التطبيق العملي والواقعي لهذه الصياغات والنصوص، فالدساتير المصرية المختلفة خلال فترة زمنية تتجاوز ستة عقود كانت تأخذ بالنظام المختلط في الحكم، ولكن من الناحية الواقعية كان نظام الحكم في مصر يتجه نحو تركيز السلطة في يد الرئيس وما يؤدي إليه ذلك من إضعاف لدور المؤسسات السياسية المختلفة، وأصبحت مهام واختصاصات رئيس الجمهورية في مصر تفوق إلى حد كبير اختصاصات الرئيس في النظم الرئاسية ولذلك يمكن توصيف نظام الحكم في مصر طوال هذه العقود بأنه نظام فوق رئاسي. 2 - إنه قد يكون من المناسب تقليص مهام واختصاصات رئيس الجمهورية وزيادة مهام واختصاصات رئيس الوزراء والحكومة، بحيث تمارس الحكومة مهامها واختصاصاتها بموجب النص الدستوري وليس بناء على تفويض من رئيس الجمهورية، وتحديد مهام واختصاصات رئيس الجمهورية على سبيل الحصر حتى لا تكون هناك فرصة لزيادة أو تضخم سلطات رئيس الجمهورية. 3 - وضع آلية واضحة وتفصيلية لمحاسبة رئيس الجمهورية وهو في السلطة في حالة الفشل أو مخالفة الدستور أو الإضرار بالأمن القومي بحيث يمكن تدارك الكارثة قبل وقوعها وقبل إنتاجها لآثارها، وأن تكون هذه الآلية للمحاسبة واضحة ومحددة ومؤسسية وينطوي عليها الدستور وذلك حتى لا تكون الثورة هي الأسلوب الوحيد لمحاسبة الرئيس، فقد استطاع شعب مصر إسقاط ومحاسبة رئيسين من خلال ثورتين في فترة زمنية قصيرة، ولذلك من المرغوب فيه وجود آلية دستورية وقانونية لمحاسبة الرئيس خلال توليه لمهام منصبه إذا استدعى الأمر ذلك. 4 - قد يكون من الأفضل لنظام الحكم المختلط في مصر أن يكون أقرب إلى النظام البرلماني، أي أن تزيد سمات وخصائص النظم البرلمانية في نظام الحكم عن سمات وخصائص النظم الرئاسية، وهو ما يتسق مع منطق تقليل مهام واختصاصات رئيس الجمهورية، ويساعد على تدعيم دور الأحزاب والمؤسسات السياسية داخل النظام والحيلولة دون إنتاج الفرعون أي الرئيس ذي السلطات شبه المطلقة، كذلك قد يكون من المرغوب فيه اضفاء الطابع المؤسسي على إصدار الإعلانات الدستورية أو تعديلها وبحيث لا تكون وفقاً لإرادة الرئيس الفرد على نحو ما شهدته مصر من إصدار إعلان دستوري مكمل في نوفمبر 2012 أضفى حصانة شبه مطلقة على قرارات الرئيس وأدى إلى انقسامات خطيرة. ونأمل أن يكون الدستور المصري مناسباً لآمال وطموحات شعب مصر، وهو يجتاز مرحلة مهمة من مراحل تطوره السياسي ويضع أسس البناء الديمقراطي، وأن يكون شكل نظام الحكم متوافقاً مع هذه الآمال والطموحات. أستاذ العلوم السياسية