حين قال زعيم الثورة السوفيتية لينين: «اذهب إلي أقصي اليسار تجد هناك أقصي اليمين»، كان في الواقع يشير إلي نفر من الثوريين أصيبوا بما اسماه في كتاب شهير له ب «مرض الطفولة اليساري» الذي يدفع أفراده إلي قراءة خاطئة لموازين القوي، والعوامل المؤثرة في عمليات التغيير في المجتمع، وإلي تجاهل وعي الشعوب وإغفال طبيعة البيئة السياسية التي يتحركون فيها، ويطرحون فيها رؤاهم وأفكارهم، فيندفعون بوعي أو بدونه إلي تبني سياسات لا تخلو من المغامرة، وإلي التمسك بمواقف تنحو إلي حرق المراحل وتستدعي مواجهات غير محسوبة، أو غير مدروسة، أو سابقة لأوانها، أو تدعو إلي ترك الأمور علي ما هي عليه، حتي تتحقق شعاراتهم الثورية المتشددة، فيخدمون بذلك الخصوم بدلاً من الانتصار عليهم! وفي الساحة السياسية المصرية الآن أفكار ثورية تتطلب الوقوف أمامها، والسعي إلي مناقشتها، مع التقدير الكامل لأنها تصدر بلا شك عن قوي وطنية تقدمية، تنتمي لهذا الشعب وتتبني قضاياه، وتندب نفسها للدفاع عنها، لكن تلك القوي تغض الطرف تماماً عما يجري علي أرض الواقع، سواء في «ميدان النهضة» أو في «رابعة العدوية» حيث تتكدس الأسلحة من كل نوع، وتنصب منصات للمدافع والصواريخ، وتلقي بالجثث المعذبة علي أطراف المكانين أمام أعين المارة وأجهزة الأمن، ويمتلئ الاعتصامان بعدد غير معروف من إخوان السودان وسوريا وحماس والقاعدة الذين لا يكفون عن ترديد خطاب موحد، يصف الرئيس المعزول بأنه ولي من أولياء الله الصالحين، ويضعه في منزلة الصحابة، ويعتبر عزله من موقعه الرئاسي بمثابة «هدم الكعبة». أدارت هذه القوي الثورية وأنصارها من الكتاب والإعلاميين ظهرها لكل تفاصيل هذا الواقع المؤلم، فأخذت بمبدأ الأحوط وخضعت لمجموعة من الهواجس والوساوس التاريخية، ونقلت من الكتب المدرسية والتجارب الدولية ما تطبقه قسراً علي واقع لا يشبهها، لكي تنتهي إلي القول بأن ما تسميه «حكم العسكر» لا يقل سوءاً أو استبداداً عن «حكم المرشد»، وحكم الإخوان المسلمين، وأن علي الشعب المصري بقيادة تلك القوي وأنصارها، أن يخوض المعركة ضدهما معاً! وفي بيان أخير صدر عن بعض هؤلاء اعترض أصحاب هذا الاتجاه قبل يوم واحد من دعوة الفريق أول عبدالفتاح السيسي للشعب المصري بالنزول إلي الشوارع والميادين لمنح القوات المسلحة والشرطة تفويضاً للتصدي للإرهاب والخروج علي القانون والاعتداء علي مؤسسات الدولة، علي دعوته، وقالوا بالحرف الواحد: «لن نفوض السيسي في أي شيء لن ننزل الشوارع، لنعطي شيكاً علي بياض لارتكاب المذابح.. ما يطلبه السيسي هو استفتاء شعبي علي تنصيب قيصر جديد لا يردعه قانون»، فالسيسي كما يقول البيان: «يريد حشد الجماهير وراءه لزيادة تماسك الدولة والطبقة الحاكمة تحت قيادته، يريد طمس أحد أهم معالم الثورة، يريد استكمال كذبة الجيش والشرطة والشعب إيد واحدة»، بعد أن كانت الجماهير تصرخ من عام واحد يسقط حكم العسكر. وفي تناقض تام مع هذا الموقف، يعود أصحاب هذا الاتجاه بعد أن نجح المظاهرات المليونية لجموع المواطنين في 26 يوليو في تفويض المؤسسة العسكرية والشرطية في التصدي للإرهاب في بيان تلا تلك المظاهرات إلي القول: «من حق كل مصري أن يفخر بخروج الملايين في كل شوارع وميادين مصر، ليصنعوا تاريخ الوطن بل تاريخ البشرية، ويؤكدوا أن كل السلطة للشعب الثائر، ليست لجماعة أو جبهة أو حتي جيش أو شرطة». لم يعترف أصحاب هذا الاتجاه، وأنصارهم من الكتاب والسياسيين من بعض خلايا الإخوان المسلمين النائمة، أن ما جري في مصر في الثلاثين من يونية والسادس والعشرين من يوليو هو ثورة شعبية بامتياز تفوق ما جري في ثورة 25 يناير، وأن قيادة الجيش ما كانت تستطيع عزل الرئيس المنتخب، من دون تأييد كاسح من الجماهير الشعبية، التي توجهت إلي صناديق الانتخاب بعد أن كانت قد خرجت من مرحلة عزلة مستمرة للعمل السياسي وإبعاد قسري عن المشاركة السياسية لسنوات طويلة في عهد نظام «حسني مبارك»، خرج الشعب المصري في الثلاثين من يونية إلي الشوارع والميادين، وهو يدرك أنه لا قبل له بمواجهة أقلية منظمة ومسلحة بالمال والسلاح والدعم الإقليمي والدولي، وكان أمله في البداية أن يستطيع الحصول علي دعم الجيش، إذا تبين له حجم التأييد الواسع الذي التف حول المطلب الذي رفعته حملة «تمرد» للمطالبة بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، ولم يخطئ الشعب تقدير الموقف، وأعلن القائد العام للقوات المسلحة وقيادات الجيش انحيازهم للشعب، وساعد علي ذلك الغباء السياسي الذي أدار به مكتب الإرشاد الأزمة، وإصراره علي رفض مطلب إجراء الانتخابات الرئاسية، المبكرة، لتسترد الجماهير الشعبية الكاسحة التي فاقت الثلاثين مليوناً في مظاهرات يونية ويوليو القوات المسلحة والشرطة إلي صفوف المتحالفين معها. وهتاف الجماهير اليوم بحياة الفريق السيسي ورفعها شعار الجيش والشرطة والشعب إيد واحدة، لا يشكل تناقضاً مع موقفها أثناء حوادث محمد محمود في ربيع العام الماضي، ولكنه في الواقع إدراك لخطأ وقعت فيه ثورة 25 يناير، حتي ابتلع ثوارها الطعم الإخواني بترديد هتاف: «يسقط حكم العسكر» لاستثمار المشاعر السلبية أمام تدخل القوات المسلحة في الحياة السياسية في فترات مختلفة من سلطة ثورة 23 يوليو، دون التوقف أمام انحياز الجيش لثورة يناير، وقبول الشعب والثوار معاً تكليفه بتولي إدارة البلاد في المرحلة الانتقالية. والقول بأنه علي القوي الثورية أن تقف ضد الإخوان وضد حكم العسكر، واعتبار الاثنين فاشية ينبغي مقاومتها، هو تسوية بين متناقضين، وعدم معرفة بالدور الطليعي الذي قام به الجيش المصري في بناء الدولة الحديثة وفي مقدمتها الاستعمار والتدخل الأجنبي وفي الانحياز إلي مصالح الشعب والوطن في كل اللحظات، بينما أثبتت التجربة أن نظام الإخوان هو حكم لفاشية دينية يكفر الخصوم والمعارضين، ويقصيهم، ولا يقبل أي شراكة في السلطة، ويسعي للانفراد بها، لكي تكون الانتخابات التي حملته إليها هي آخر انتخابات يغلق بعدها كل احتمال لتأسيس نظام ديمقراطي يتم فيه تداول حقيقي بها. لقد تنازل الجيش مختاراً عما كان لديه من سلطات لجماعة الإخوان المسلمين ليس علي سبيل التواطؤ ولكن لأن ذلك كان إرادة المصريين في مرحلة من المراحل، فاعتبر الإخوان وأنصارهم ذلك «حكم الثورة» وحين انحاز الجيش للجماهير الشعبية في مظاهرات وصفها المراقبون بأنها لم يسبق لها مثيل في التاريخ المصري، وفي تاريخ العالم، أصبحت في نظرهم «انقلاباً عسكرياً». تلك أفكار تبدو في الظاهر شديدة الثورية، لكن في جوهرها أفكار فوضوية ساذجة، قد يكون من يقول بها من ذوي النيات الطيبة، لكن الطريق إلي جهنم الاستبداد، ملىء بالنيات الثورية الطيبة!