يستحق الفريق أول عبدالفتاح السيسي مشاعر الحب والتقدير والإعجاب التي يكنها له الشعب المصري، لأنه قال الكلمة بحكمة في الوقت المناسب، ودعا المواطنين في أنحاء الجمهورية إلي النزول إلي الميادين، وتحمل المسئولية مع الجيش والشرطة «حتي تذكروا العالم بأن لكم إرادة وقراراً، وبأنكم في حالة اللجوء للعنف والإرهاب، يفوض الجيش والشرطة لمواجهة هذا العنف وهذا الإرهاب». ومعني هذا الكلام أن القائد العام للقوات المسلحة الذي يطالب الشعب بتفويضه وأن يأمره، لم يدعُ كما زعم البعض إلي احتراب أهلي، وإلي مواجهة بين المصريين وبعضهم، ولكنه كان يرد ببساطة علي إنذار أعلنته «إمارة رابعة العدوية» منذ أول رمضان، خلاصته أن يوم 17 رمضان - وهو ذكري غزوة بدر - سيكون يوم الحسم فيما فهم منه أنه سيشهد انقلاباً يعيد الرئيس المعزول محمد مرسي إلي منصبه كرئيس للجمهورية، وكشفت أحداث الأسابيع الثلاثة الأخيرة، أن الوسيلة الوحيدة التي يمتلكها «أمراء إمارة رابعة العدوية» لتحقيق هذا الهدف، هي ما شهدنا نماذج منه خلالها: متفجرات توضع أسفل المباني الحكومية وأقسام الشرطة وبنادق خرطوش وقنابل مولوتوف بالمئات تضبط لدي أعضاء ينتمون إلي ميليشيات جماعة الإخوان وحلفائها وأزياء عسكرية يتم ضبطها بالآلاف وغارات تشن علي مواقع القوات المسلحة في سيناء وفي المحافظات، ومحاولة لاقتحام مقر الحرس الجمهوري، وتعطيل حياة المواطنين في الأماكن التي يحتلونها، وعشرات القتلي سقطوا بالخرطوش وبالرصاص الحي في أنحاء متفرقة من الجمهورية، وعشرات غيرهم عذبوا حتي الموت وألقيت جثثهم علي «حدود الإمارة» بعد أن صدرت ضدهم أحكام شرعية بإهدار الدم، وقطع للطرق المؤدية للمطارات وللمؤسسات الحيوية وإيقاف للقطارات وخطوط المترو، وتهديدات بتفخيخ السيارات والقيام بعمليات انتحارية تصدر عن منصة «الإمارة» في رابعة العدوية، كل هذه الأعمال الخارجة علي القانون وغيرها من أجل تحقيق البرنامج الذي سينفذه الرئيس المعزول فور عودته إلي موقع «أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين»، تشمل تطهير القضاء والشرطة والجيش والإعلام ومؤسسات الدولة، من كل المصريين الذين ليسوا أعضاء في هذه الجماعات والذين هم ليبراليون وديمقراطيون، وعلمانيون وهم بالتالي كفرة يتآمرون علي دولة الإخوان، ويسعون إلي تقويضها، وإلي مواجهة خطة الخراب التي رفعت شعارات «اللي يرشه بالميه هنرشه بالدم» و«إني أري رؤوساً قد أينعت وحان قطافها»، و«لن يتوقف الإرهاب في سيناء إلا إذا عاد أمير المؤمنين محمد مرسي إلي قصر الاتحادية». في مواجهة كل ذلك لم يكن ممكناً للجيش أن يقف صامتاً ومحايداً، كما يدعو إلي ذلك كل مناصري الإخوان وتيار الإسلام السياسي، وكان لابد للفريق «السيسي» أن يستجيب لرأي عام ضاغط، ظل خلال الأسابيع الماضية يتساءل أين الجيش؟.. وأين الشرطة؟.. وأين أعمدة الدولة مما يجري في رابعة العدوية وميدان النهضة وسيناء؟.. وإلي متي الصبر علي ما يجري؟.. ومن الذي قال إن ما يجري هو تعبير سلمي عن الرأي؟.. بينما تدل كل الشواهد علي أنه يصدر عن أقلية محدودة، عجزت برغم كل الإمكانيات المالية الطائلة وما لديها من مخازن أسلحة، وبرغم كل الدجل السياسي باسم الدين والديمقراطية والشرعية، الذي لا تكف قناة الجزيرة مباشر مصر - التليفزيون الرسمي لإمارة رابعة - عن بثه، وحملات التشويه والأكاذيب والشائعات التي تطلقها ميليشيات الجماعة الإلكترونية ويساندها كتاب وصحفيون من أنصارها، أن تجتذب أعداداً غفيرة لتأييد مطلبها، كان لابد للفريق السيسي أن يتكلم، لا لكي يعلن الحرب الأهلية كما يزعمون ويروجون، بل لكي يؤكد أن الدولة المصرية جاهزة إذا ما تلقت الأمر من الشعب، لكي تواجه هذا الإرهاب الأسود، الذي يريد أن يجبر المصريين علي الاختيار بين أن يخضعوا لحكم جاهل فاشل ضيق الأفق معدوم الكفاءة والخبرة وإقصائي، أو أن تتحول بلادهم إلي بحار من الدماء والفوضي، كان من واجب الفريق «السيسي» أن يتكلم، كي يؤكد أن الدولة ستكون حاضرة بقوة خلال يوم 17 رمضان وما يتلوه من أيام لتحمي مرافق الدولة، ومؤسساتها وأرواح مواطنيها وتواجه بشتي الأساليب كل الذين يلجأون إلي العنف، أو يعبرون عن آرائهم ببنادق الخرطوش والرصاص الحي ومدافع آر بي جي، والقنابل البدائية التي صنعت في تركيا وغزة وغيرها من بقاع الأرض. ولا يصلح ما قاله الفريق أول «السيسي» دليلاً لكي يزعم البعض بأن ما يسمونه بالانقلاب العسكري، قد اكتملت أركانه، وإلا ما حرص قائد الجيش، علي أن يعرف رأي الشعب قبل أن يقوم بأي خطوة أو دعوة المواطنين إلي الاحتشاد في نفس اليوم الذي حدده زعماء رابعة العدوية، لحسم الأمر، لكي يحصل من الشعب علي تفويض وأمر بمواجهة خطط إشاعة الفوضي والدمار، ولكي يعرف العالم أن ما يحدث في مصر منذ 30 يونية الماضي، وقبله بشهور عدة، منذ بدأت حملة جمع توقيعات علي وثيقة حركة «تمرد» وحتي الآن، إنما يعبر عن إرادة ملايين المصريين، وأن كل خطوة من خطواته كانت تقف وراءها إرادة شعبية عارمة، وكانت تسبقها - كما شرح الفريق السيسي في خطابه - تحذيرات لمن يعنيهم الأمر، بأن السياسات التي يتبعونها تهدد أمن الوطن ووحدة أراضيه، ومصالح شعبه بأفدح الأخطار. وأمام تنكر هؤلاء المتكرر للوعود التي قطعوها علي أنفسهم لتهيئة الأوضاع علي نحو يخفف من حالة التوتر السياسي، ويبعد الأخطار التي تحيط بالأمن القومي للبلاد، كان لا مفر، أمام القوات المسلحة من الاستجابة لإرادة الشعب، كما استجاب لها في 11 فبراير 2011 حين بدا وكأن الذين كانوا يحكمون عاجزين عن التوصل إلي توافق وطني، وعازفين عن الاستجابة لمطالب الشعب. ليس فيما فعله الفريق السيسي خطوة في طريق ما يسمونه الانقلاب العسكري، الذي سبق أن قالوا إنه تم بالفعل، ولكنه خطوة في سبيل العودة مرة أخري للاحتكام إلي الشعب، في عملية سياسية بدأت خطواتها المعلنة، وفي التوقيتات المحددة التي وردت في الإعلان الدستوري، وبتشكيل اللجنة القانونية لوضع التعديلات الدستورية وهي لجنة تم اختيار كل أعضائها بحكم مواقعهم، ورشحتهم الجهات التي ينتمون إليها، وكان باستطاعة مواطني رابعة العدوية أن يشاركوا في هذه العملية وأن يخوضوا في المستقبل القريب الانتخابات البرلمانية أو حتي الرئاسية، وأن يفوزوا فيها فيفحموا بذلك الذين ثاروا ضدهم، ولكنهم بدلاً من أن يفعلوا ذلك، اختاروا أن يرشوا المصريين بالدم، لأنهم يدركون أن أحداً منهم لن يعطيهم صوته في أي انتخابات قادمة، بعد حكم الإرهاب الذي أخضعوا له مصر لمدة عام كامل، وعزلوها عن العامل، وتفرغوا للصدام مع كل الأحزاب والقوي السياسية، ومختلف مؤسسات الدولة، التي انحصر همهم الأول والأخير في أخونتها. وليس صحيحاً أن الفريق السيسي قد وجه دعوته، من دون علم رئيس الجمهورية، أو رئيس الوزراء، فقد سبق للرئيس «عدلي منصور» أن حذر بأن الدولة لن تقف مكتوفة الأيدي أمام التحريض علي العنف والإخلال بالأمن، وطالب الجميع بالانخراط في العملية السياسية طبقاً لخارطة المستقبل التي أعلنها الجيش، فضلاً عن أن رئاسة الجمهورية أصدرت بياناً تدعم به دعوة الفريق السيسي، وليس من المنطقي أن يتوهم أحد أن الفريق السيسي الذي أعلن في خطابه أن كل ما صدر عنه من بيانات، كان يعرضها علي الرئيس المعزول قبل إلقائها، أن يتخذ هذه الخطوة دون أن يتشاور مع أركان الدولة. وإذا كان من حق أي إنسان أن يؤيد حكم الإخوان الفاشل والفاشي، وأن يبحث لنفسه عن ذريعة يبرر بها موقفه، فليس من حقه أن يلوي عنق الحقائق أو أن يصف ما يجري من تحريض طائفي وتحريض علي الفوضي والعنف والقتل والإرهاب، والتهديد بالانتقام وإسالة الدماء في رابعة العدوية وميدان النهضة، بأنه تظاهر سلمي مشروع، أو أن يفسر نجاح ثورة 30 يونية في إزاحة نظام غير مؤهل لحكم بلد بحجم مصر ومكانتها بأنه انقلاب علي الشرعية والديمقراطية فأي شرعية هذه هي التي يؤيدها هؤلاء؟.. وأي ديمقراطية تلك التي يحكم شعب بنظام خرجت ملايين منه في الثلاثين من يونية كي ترفضه؟ الشرعية هي في الاستجابة الفورية والعفوية لملايين المصريين لدعوة الفريق السيسي وسحقاً لشرعية وديمقراطية الحاكم بالحديد والنار والسيارات المفخخة، والقتل خارج القانون، واستعداء الخارج علي مصالح الوطن.