تتجلى فى شهر رمضان المعظم كل عام عادات شرقية وعربية لا يوجد مثلها في أي مكان آخر في العالم. وكانت مصر تنفرد بصورة مصرية خالصة لم تكن تعرفها أي دولة عربية أو إسلامية حول العالم، إلى أن بدأت الفكرة تنتشر في أقطار الشام أولاً، القدس ودمشق ومدن الشام الأخرى ثم إلى بغداد في أواخر القرن التاسع عشر، وبعدها انتقل إلى مدينة الكويت حيث جاء أول مدفع للكويت في عهد الشيخ مبارك الصباح، وذلك عام 1907، ثم انتقل إلى كافة أقطار الخليج قبل بزوغ عصر النفط، وكذلك اليمن والسودان وحتى دول غرب أفريقيا مثل تشاد والنيجر ومالي ودول شرق آسيا حيث بدأ مدفع الإفطار عمله في إندونسيا سنة 1944، فهذا «مدفع رمضان» الذي كان مسلمو مصر يفطرون على طلقة الافطار، ويمسكون مع طلقة الامساك. وتقدم قبل أسبوعين عدد من المثقفين بطلب لوزارة الداخلية، لإعادة تشغيل مدفع رمضان باعتبار أنه من المظاهر المصرية التى كانت تميز مصر فى شهر رمضان، كما طلبوا نقله إلى منطقة المقطم حتى لا يتأثر بنيان القلعة من طلقاته المدوية.. وهذا المدفع «الحربي» العجيب الذي حين يسمع طلقاته يعلم الجميع موعد فطورهم وامساكهم، لم يُصِبْ أحداً بسوء، ولم يوقع أي خسائر، ففكرته نبيلة تسهم في تذكرة المسلمون بانتهاء فترة الصوم لذلك اليوم، والاستعداد لصوم يوم جديد. وهناك حكايات عديدة حول هذا المدفع القابع أعلى نقطة بقلعة صلاح الدين بالقاهرة الفاطمية العتيقة.. فإحدى الحكايات تقول إنه قد أتى به محمد على إلى مصر ضمن صفقة سلاح جلبها إلى المحروسة من «المكسيك»، وبدأ استخدامه في إفطار المسلمين عن طريق الصدفة في عهد خوشقدم عندما أمر رجالاته بتجربة المدفع الذي صادف موعد آذان المغرب في أول أيام شهر رمضان المعظم.. واعتقد المصريون وقتها أنها إشارة لانتهاء الصيام. وأتي اليوم الثاني لرمضان وبادر كبار التجار بزيارة الحاكم وتهنئته على المدفع وبداية تلك العادة التي فرح لها المصريون. وعلى الرغم من أنها كانت مصادفة غير معد لها من الحاكم، إلا أنه ولحصافته وذكائه الشديد الذي كان يعرف عنه، فقد فهم ما قصده التجار ووعدهم باستمرار هذه العادة، وأنها كانت بمثابة مفاجئة أعدها مسبقاً للمصريين احتفالا بأفضل وأكرم الأشهُر. عُرف المدفع باسم «الحاجة فاطمة» الذي ذُكر في بعض الروايات بأنها ابنه الخديو إسماعيل وأنها من قامت بإصدار أوامرها باستخدام المدفع لتنبيه المصريين بقدوم موعد الافطار، ولكن نفى عدد من المؤرخين هذه الرواية، مؤكدين أن «الحاجة فاطمة» هي إحدي السيدات الثريات بمنطقة القلعة قديماً واعتادت على جلب وجبة الافطار الرمضاية للعمال الذين كانوا يعملون على اطلاق قذائف الافطار. وفي منتصف القرن التاسع عشر وتحديدًا في عهد الخديوي عباس الأول عام 1853م كان ينطلق مدفعان للإفطار في القاهرة: الأول من القلعة، والثاني من سراي «عباس باشا الأول» بالعباسية- ضاحية من ضواحي القاهرة- وفي عهد الخديو «إسماعيل» تم التفكير في وضع المدفع في مكان مرتفع حتى يصل صوته لأكبر مساحة من القاهرة، واستقر في جبل المقطم حيث كان يحتفل قبل بداية شهر رمضان بخروجه من القلعة محمولا على عربة ذات عجلات ضخمة، ويعود بعد نهاية شهر رمضان والعيد إلى مخازن القلعة ثانية. وتطورت وظيفة المدفع فكان أداة للإعلان عن رؤية هلال رمضان، فبعد ثبوت الرؤية تنطلق المدافع من القلعة ابتهاجًا بشهر الصوم علاوة على إطلاقه 21 طلقة طوال أيام العيد الثلاثة. وهكذا استمر صوت المدفع عنصرا أساسيًا في حياة المصريين الرمضانية من خلال المدفع الذي يعود إلى عصر محمد علي.. ويحتاج المدفع لاطلاق قذائفه أربعة من الرجال الشدائد قويي البنية فيعمل اثنان منهم على وضع البارود بداخل الفوهة الخاصة به، والاثنان الآخران يقومان باطلاق القذيفة التي يفرح أهل القاهرة لسماعه ورغم أن المدفع القديم الذي اشتهر بمدفع الحاجة فاطمة يصنف ضمن المدافع الحربية، فإن الطلقات التي كانت تصدر منه عبارة عن كتلة من البارود تعطي صوتا مرتفعا فقط وكان حتى عام 1859 يستخدم الذخيرة الحية.. وفي وقت من الأوقات كانت في مصر خمسة مدافع للانطلاق وقت الإفطار كانت تطلق جميعاً من مناطق الحي الخامس وطرة وحلوان ومدينة البعوث إضافة إلى مناطق القلعة ومصر الجديدة، إلا أنه مع زيادة الكثافة السكانية وتطور الإذاعة وانتشار التلفزيون أصبح الأمر مقصوراً على مدفع واحد.. ومدفع الافطار الذي ذاع صيته بين المصريين ودول الإسلامية، هو عادة مصرية خالصة ابتدعها الحاكم خوشقدم ولم تأخدها أي دولة سواء اسلامية أو عربية كما يُشاع. وعلى الرغم من توقف ذلك المدفع الاثري العجيب عن العمل وسكوته عن اطلاق دوى قذائفه، وتذكرة سكان القاهرة بموعد الإفطار منذ عام 1992 بعد أحداث زلزال 92 الشهير لتأثيره على جدران قلعة صلاح الدين الأثرية، إلا أن المدفع يظل في قلوب وأذهان المصريين كباراً وصغاراً. وكل عام وأنتم بألف خير