مصطفى الغزاوي الأحداث في مصر ليست صراعات قصر أو اشتباكات ميادين. ما يجري في مصر هو إعادة رسم لخرائط جديدة وتبديلا في رؤى واستراتيجيات، وبنحو آخر إسقاط لغة تحمل رنين الألفاظ دون مضمونها. وهذا النوع من الصراعات هو صراع المدى الطويل، لا يصلح معه سياسة حافة الهاوية، وإعدام الأمم مقابل رؤية مغتربة من حيث المعاني والدلالات والغايات، فعندما يسمع شعب "إما أن تقبل بما نقول أو هو الدم"، فيخرج بالملايين عاري الصدر يسقط تهديد (نحن أو الفوضى)، وتنكشف حقيقة أن ما ثار عليه كان هو الفوضى. ولا يصلح معه حديث خصيان بني أمية، حديث يبث الخنوع ولا يقطع في الطريق أي مدى، وكأنه لا يعرف في اللغة غير التسامح وعدم الإقصاء والحوار، تحكمهم حكمة "إذا صفعك إرهابي على خدك الأيمن فأعطه الأيسر، واعتذر له أنك لا تملك غيرهما"، وكأن الأمم لا يأتيها في تاريخها لحظات تستدعي أوضح ما تعتقد، وتحمل له بأشجع ما يمكنها، فالأمم لا تتكرر في تاريخها لحظات عودة الوعي واسترداد الإرادة مصادفة، ولكن تلك اللحظات قد يمتد زمنها لسنين لتستقر، عندما تتحرر الإرادة ويستقر في يقينها ما تعتقد فيه، وترى أنه حقيقة التاريخ والحاضر فوق هذه الأرض ولصالح أهلها. الصراع في مصر وعلى مصر دائر على كافة المستويات، وأراه في موجة 30 يونيو قد تجاوز نقطة الخطر، وأن منحنى استرداد مصر آخذ في الصعود. فالمشهد ليس ميدانا احتشد فيه شعب، ولكنه شعب ملأ شرايين الحياة في وطنه، فطرد كافة الأجسام الغريبة خارج شرايين الوطن، فلم يعد لها غير أن تؤول إلى تحالفاتها علانية، لتنكشف أبعاد الصراع وقواه. وإذا جسد هذا دلالة الإرادة، واليقين، فهو بالتبعية قد استدعى أقصى ما يمكن أن تواجهه مصر من عداءات أو تحالفات وخطط، وبمعنى آخر أن المواجهة شاملة وشرسة وتخوض معاركها الأخيرة، في هذه الجولة على الأقل من تاريخ مصر. نعم مصر تجاوزت نقطة الانكسار، واستردت المبادأة، مما استدعى أن تكون المواجهة شاملة، وهو أمر يبعد لفظ "الاستقرار" المجرد من قاموس السياسة في مصر، ويصبح استخدامه ناشئا عن عجز في الوعي، أو عن انتهازية. والغريب أنه كلما قطعت الثورة في مصر خطوات على طريق تحقيق أهدافها، أصاب داء النسيان إدراكها، وكأنها تستعيد الخطأ ونتائجه لتتأكد من الصواب. والاستقرار في مصر يمكن له أن يتحقق، عندما يبدأ جيل جديد في قيادة العمل السياسي والعام في وطنه، ولا أعني جيل جديد بمعنى شباب وشيوخ، ولكن جيل يتسع أفق وعيه ليشمل تاريخ وطنه واحتياجات عصره ومنحاز لشعبه دون مَنٍّ أو أذى. هنا تبرز نقطة الخلل في المشهد في مصر، شعب ملأ شرايين الحياة واختار البقاء، ومخاطر متعددة، واستقرار غائم ينتقل من الألسن إلى الفراغ لأن أهله غائبون ولم يحضروا بعد. لعل كل فرد يؤدي ما يراه من جانبه مناسبا للحالة التي يحياها الوطن، ولكن هل هناك من توقف للحظة ليدرس ما تتكلفه مصر ماديا كل لحظة لمواجهة جملة المخاطر؟. هل هناك من درس هذا المشهد الجليل ليوم 30 يونيو ترصده طائرات القوات الجوية المصرية، وكأنه طابور عرض استقر في يقينه هدفه وماض إليه؟، مشهد يعجز خبراء تحريك الجموع في السينما العالمية من إخراجه، وبهذا العمق المكاني والزمني وباستمرار تدفق لا ينقطع، وبكل محافظات مصر، وبهذه الروح السلمية. هل هناك من درس حالة التقارب بين الشعب والجيش وبين الشعب والشرطة؟. هل هناك من درس واقع سيناء والحدود الغربية والجنوبية؟ هل هناك من درس انتشار معسكرات الإرهاب الديني والمحتمي بالأطفال والنساء سواء في سيناء أو في المناطق المغذية لها بالعتاد والبشر؟ هل هناك من وضع أمامه خريطة مصر ليقرأ ما يجري من حولها، حتى إن أحد أجنحة المقاومة الفلسطينية ينقلب إلى طرف معاد في أي تقدير للموقف على الحدود المصرية؟، أليس هذا حال حماس الآن؟. هل يمكن مراجعة المواقف الدولية من أمريكا حتى الاتحاد الإفريقي؟، من مع مصر، وأي مصر؟. ثم السؤال الجامع لكل هذا: من يدير أمر مصر في هذه اللحظة؟. السؤال ليس بحثا عن إجابة، السؤال دعوة للتأمل في أمر مصر وبهدوء. كان مأخذنا على المجلس العسكري أنه سلم مصر للإخوان، والسؤال الآن: من أدار مصر منذ إقالة المجلس العسكري في رمضان الماضي؟، كيف استقرت مطالب الثورة وحقائق سرقتها من جماعة الإخوان في اليقين حتى تأتي لحظة نجد مرسي بين عناصر القوات المسلحة معزولا بقرار من قائدها العام؟ يجب الاعتراف أن مصر لم تمر بفترة مماثلة حتى بعد نكسة 1967، فالمكونات يومها كانت محددة، من هو العدو؟ وما هو الهدف؟ وميدان المعركة محدد؟ والعلاقات الدولية محددة وقضية استرداد الشرف والكرامة بالحرب قاطعة بل والقيادات ابنة الرؤية محددة ومعروفة سلفا، بينما كل هذا في وقتنا الحالي ظل خارج الحساب والمعرفة. والأخطر أن هناك التباس بشان العدو!. لكن ما لا يستطيع أحد إنكاره، أن هناك إدارة لمرحلة متعددة المسارات والتوجهات والتفسيرات والشخوص المبهمة والكتل البشرية الزاحفة والشهداء يتساقطون لأسباب عديدة، مجتمع يفور والغليان يبلغ مداه، ليصل إلى نقطة الحسم يوم الأربعاء 3 يوليو مساء بقرار عزل محمد مرسي، وكأن مصر كانت تعلم ما تريد وكانت ذاهبة إليه بكل قواها، أليس ذلك كله يدعو الميادين والقصور أن تتواضع وتدرك حقيقة الصراع في المجتمع وقواه المؤثرة وطبيعة تكوينها ودور كل منها وضرورة التكامل بين هذه الأدوار؟. بعد الثالث من يوليو هناك إدارة للازمة علانية الأداء في بعض مما يجري، فهناك رئيس مؤقت هو رئيس المحكمة الدستورية، وهناك مساعدون له، وهناك منصب نائب رئيس تولاه محمد البرادعي، ثم هناك تشكيل لوزارة هي ليست ابنة جيل الاستقرار المنشود هي جامعة بين ما ثار عليه الشعب وما يراه ولكن الالتقاء تم عبر مراحل محدودة من الاختبار، ولذلك ليس هناك في علوم الإدارة تفويضا بالمطلق، ولكن هناك تحديدا مسبقا بالحاجة إلى وضع دستور لمصر الثورة، واستيعاب لمعني "عيش، حرية، عدالة اجتماعية"، وترجمة هذا الشعار في عقد اجتماعي جديد. عند الحديث عن أمر مصر، لا يجوز وضع جماعة الإخوان في ذات مستوي القياس، فمصر وطن وارض وتاريخ وشعب، وأيا كانت أي جماعة او حزب، فهي لا تعدو كونها جزءا وليست كل يمكن القياس عليه، أو وضعه في حالة ندية مع الوطن. الحديث عن جماعة الإخوان ليس حديثا عن قبيلة أو عشيرة أو عرق في مجتمع، ولكنها عناصر من أسر مصرية ارتبطت ببناء تنظيمي، ولكن العقيدة انحرفت بالبناء والأفراد ليحدث الانفصام، هل القضية وطن وشعب، أم القضية جماعة؟، وأين هو الوطن في رؤية الجماعة؟، وبعد ذلك كله ما هي طبية العلاقات والارتباطات الخارجية؟. الإخوان وأمريكا، طرفان اليوم دخلا إلى مرحلة تغيير جذري لأدوارهما ووجودهما. الإخوان بالفعل دخلوا مرحلة الفناء لما يحملونه سياسيا وتنظيميا وتمويليا وانكشف دورهم وعلاقتهم بالمخططات الغربية بالنسبة للمنطقة، بل إن قضية فلسطين التي ظلوا يزايدون بها صارت لعنة تطاردهم، وأميركا انكشف وجهها التآمري علي شعب مصر، فليس الأمر تحقيق مصالح أمريكا أو تحقيق ديمقراطية، ولكن الأمر صناعة الوريث الديني الإخواني لنظام مبارك، وهل لهذا بكل تكلفته المادية (الأرقام بين أمريكا والإخوان بالمليارات)، وما دفعه الشعب من دماء وما يواجهه الجيش المصري من جماعات إرهابية على أرض مصر، توصيف آخر غير التآمر. مصر تعيد الإمساك بذاتها، وكان تعبير "مصر عادت شمسك الذهب"، صار حقيقة على الأرض. وهي تملك المبادأة في إدارة الأزمة، وإدارة الأزمة موجودة قبل 30 يونيو وليس هناك ما يستدعي إنهاء أعمالها. وهي تجاوزت حالة الخطر، ولا يصلح معها نهج حافة الهاوية. يبقى أن الصدق في مواجهة القادم مهما كانت مراراته ضرورة بقاء، ضرورة تحقيق بقاء مصر الوطن، وتحقيق أهداف الشعب في "عيش حرية عدالة اجتماعية". نقلا عن صحيفة الشرق القطرية