دائماً ما تثير المواقف الأمريكية جدلاً كبيراً، ليس في مصر فحسب، بل في كافة أرجاء المعمورة، فليس من شك أن زعامة الولاياتالمتحدة للنظام العالمي، منذ انتهاء الحرب الباردة؛ تجعل من المواقف الأمريكية «قاطرة» للمجتمع الدولي في كثير من الأمور، ولا ينفي ذلك وجود بعض الدراسات، وكثير من الأمنيات، التي تُشير إلي قرب زوال الولاياتالمتحدة كقطب أوحد يهيمن علي النظام الدولي. غير أن المراقب للسياسة الخارجية الأمريكية، لابد وأن يلحظ أنها نتاج مجموعة من الرؤى المتباينة، تعكس مدى اتساع دائرة صناعة القرار الأمريكي، وبالتالي تخرج تلك الرؤى مُعبرة عن منابعها وتوجهاتها، بل وخبراتها واختصاصاتها، وطبيعة الدور المنوط بها في سبيل تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية. ونظراً لما يتمتع به المجتمع الأمريكي من شفافية، فإن تباين تلك الرؤى ينعكس جلياً في وسائل الإعلام، بما قد يفسره البعض «ارتباكاً» في السياسة الأمريكية، في حين أن الأمر لا يتعدي حدود ما تقتضيه قواعد الحكم الرشيد، وهو أمر تقودنا إليه نظرة موضوعية، تتجرد من خلافاتنا مع كثير من السياسات الأمريكية. في هذا الإطار أيضاً، ينبغي الانتباه إلي أن السياسة الخارجية الأمريكية لا يمكنها أن تستبق الشارع المصري علي الإطلاق، فلطالما أعربت الإدارة الأمريكية أثناء ثورة 25 يناير عن «قوة نظام مبارك وقدرته علي تجاوز الأزمة»، وبتصاعد اشتعال الشارع المصري، تعالت نبرة الخطاب الأمريكي الموجه إلي مبارك، إلي أن رأي أوباما أن علي مبارك أن يرحل «الآن».! وليس بعيداً عن ذلك، ما اتخذته الإدارة الأمريكية من ردود أفعال تجاه الامتداد الطبيعي لثورة 25 يناير في الثلاثين من يونيو، فبدأ الخطاب الأمريكي مسانداً «للشرعية» التي يمثلها الدكتور مرسي، داعياً إلي «التعبير السلمي»، ومؤكداً علي ضرورة «الاستماع إلي مطالب الشعب»، وهي عبارات تجد لها الكثير من الصدى فيما صدر عن الإدارة الأمريكية أثناء ثورة 25 يناير. وبنجاح الشعب المصري في تبني ثورته، نافياً عنها كونها مجرد انقلاب عسكري، تصاعدت الأصوات الأمريكية الداعية إلي إعلاء الإرادة الشعبية المصرية، معتبرة أن الشرعية «لا تتوقف عند حدود صندوق الانتخابات»، مروراً بالتأكيد علي «تواصل الاتصالات بين الجانبين»، وتسليم دفعة من الطائرات الحربية في موعدها، داعية إلي الإسراع بتأسيس نظام ديمقراطي يحقق طموحات الشعب المصري. في غضون ذلك لا بأس من استمرار بعض «الضغوط» الأمريكية علي مصر في محاولة لتطويع النظام القادم، وبغرض انحراف آمن، يضع العربة الأمريكية علي طريق الإرادة الشعبية، دون أن تفقد اتزانها فتهوي بمصداقيتها أمام الرأي العام العالمي، دون أن ينفي ذلك حسرة أمريكية علي الرحيل «المبكر» لمرسي، تاركاً خلفه الكثير من الآمال الأمريكية «الكبيرة» التي يستحيل تحقيقها في غيابه ... وهذا حديث آخر بإذن الله.