تاريخ مصر الحديث حافل بالأحداث الكبيرة والتغيرات العديدة التي تتابعت عبر السنين، منذ ثورة الجيش في يوليو 1952 إلي ثورة الشعب في يناير 2011، وان كان بعضها قد ناله الكثير من الدراسة والبحث الا أن العديد من تلك الأحداث والتغيرات شابه الغموض والتعتيم وأخفيت بياناته وتكاثرت حوله الأكاذيب. والآن وقد زالت ضغوط السلطة وإرهاب الدولة يكون من الواجب إعادة دراسة كل هذه الأمور والتحري والبحث عن صحة الوقائع والأحداث التي جرت بمصر خلال نصف القرن الأخير. أهم تلك الأحداث الفظيعة والمؤلمة تكرر جرائم القتل التي شابها الغموض من إخفاء الحقائق والمعالم المحيطة بها ومنها مصرع الملك فاروق سنة 1965 ومصرع الدكتور أنور المفتي »طبيب الرئيس عبدالناصر« سنة 1966، ومصرع المشير عبدالحكيم عامر سنة 1967، والفنانة سعاد حسني سنة 2001 ثم مصرع الدكتور أشرف مروان سنة 2007، ومن الجرائم المؤلمة التي تم التعتيم عليها وإخفاء معالمها وعدم محاسبة المسئول عنها، تلك المذبحة التي نزلت بالمعتقلين السياسيين في سجن مصر سنة 1965 وقُتل منهم العشرات بإطلاق الرصاص عليهم أيام تولي عضو مجلس الثورة زكريا محيي الدين لوزارة الداخلية. ثم تأتي رشوة المخابرات الأمريكية إلي رئيس مصر- جمال عبدالناصر سنة 1954 مبلغ وقدره ثلاثة ملايين دولار، ولما اكتشف أمرها قام عبدالناصر باستخدامها في بناء برج القاهرة، ولقد حاول الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل في مقال له في السبعينيات أن يزيل تهمة الرشوة عن جمال عبدالناصر، فادعي كذبا أن هذه الرشوة قدمت للرئيس محمد نجيب، الذي سلمها إلي جمال عبدالناصر، فكان أن تقدم الرئيس المعزول محمد نجيب ببلاغ إلي النيابة ضد- هيكل- متهما إياه بالكذب- فتراجع هيكل عن ادعاءاته واعتذر للواء محمد نجيب. في عام 1956 أصدر الرئيس قرارا مفاجئا بتأميم شركة قناة السويس وقد تبع ذلك قيام العدوان الثلاثي علي مصر، وتدمير كامل لأسلحة الجيش المصري بجانب الخسائر المادية والبشرية الكبيرة، وعندما تدخلت أمريكا وأجبرت قوات المعتدين علي الانسحاب، استفادت إسرائيل من ذلك العدوان بالحصول علي حرية حركة سفنها في خليج العقبة. هذا مع العلم بأن ملكية وإدارة شركة قناة السويس كانت ستعود ملكيتها بالكامل لمصر بعد بضع سنوات، فهل كان قرار تأميم تلك الشركة عملا صائبا أم تهور سياسيا غير مدروس. لقد سبق ونشر الزعيم الراحل فؤاد سراج الدين مقالا شاملا حول هذا الموضوع في أواخر السبعينيات، انتقد فيه حركة تأميم القناة وما تبعها من أحداث جسام فتعرض للتهديد الشديد من الرئيس أنور السادات. نأتي إلي أسر الرؤساء وأولادهم وظاهرة استغلال النفوذ والتربح وتحقيق المكاسب غير المشروعة، كانت البداية في أيام حكم الرئيس جمال عبدالناصر، عندما قرر صرف مرتب استثنائي كبير لوالده ولإخوته الثلاثة بالاسكندرية الليثي- شوقي- عز العرب- الذين يعملون مدرسين بمدارس الاسكندرية، ثم كان استغلال الاخوة الثلاثة لنفوذهم في الاستيلاء علي العديد من المباني والقصور من هيئة الحراسة بالاسكندرية لتكون مساكن لهم، واقامة مدارس خاصة للتربح منها. أما أولاد الرئيس جمال عبدالناصر- الثلاثة- فقد نزلت عليهم المجاملات من أموال الدولة عندما أقامت شركة المقاولون العرب فيلا كاملة لكل واحد منهم وقدمت لهم بأسعار رمزية. وبعد وفاة الرئيس جمال عبدالناصر كثرت الأقاويل حول وجود حساب سري له في بنوك سويسرا، ودارت مناقشات حول هذا الموضوع في مجلس الشعب، فاضطر الرئيس السادات الي تكوين لجنة برئاسة المدعي الاشتراكي لبحث ذلك الموضوع وتقديم تقرير كامل لمجلس الشعب، وقامت اللجنة بواجبها وقدمت تقريرا للرئيس السادات الذي قام بإخفائه ولم يعلن عما جاء به. ولقد تكررت تلك الأحداث العائلية حول بعض أفراد أسرة الرئيس السادات وخضعت للتحقيقات والإدانة. وبعد وفاة الرئيس السادات ثارت بعض الأقاويل حول وجود ممتلكات له ولأسرته في أمريكا، ولم تهتم الدولة ببحث هذا الموضوع أو التحري عنه، وأسدل الستار علي هذا الموضوع. وبعد تنحي الرئيس حسني مبارك ظهرت كارثة استغلال النفوذ والتربح والاستيلاء علي المال العام منه ومن أفراد أسرته في الداخل والخارج، ومع توفر الشفافية والحرية خضعت كل هذه الأمور للبحث والتحقيق، حدث انقلاب عسكري في اليمن بقيادة الفريق عبدالله السلال في عام 1964 ورأي الرئيس جمال عبدالناصر، ضرورة دعم ذلك الحدث، تدخل الجيش المصري بكامل قوته في حرب استنزاف شديدة، كبدته خسائر مادية وبشرية كبيرة، مع ضياع رصيد مصر من الذهب- الذي قدم رشوة لقبائل اليمن لضمان ولائهم للثورة، وضاع جزء من هذا الرصيد في جيوب بعض ضباط الجيش، لم تحظ مشاركة مصر في تلك الحرب بأي دراسة جادة وهل كانت ضرورة ملحة أو عملا طائشا. ثم جاءت الكارثة الكبري التي حلت بمصر في عام 1967- بهزيمة الجيش المصري أمام العدو الاسرائيلي- والتدمير الكامل لسلاح الطيران- وهي نفس الضربة التي نزلت بالجيش المصري في عام 1956، ولقد دار حول هذه الحرب الكثير من الفضائح والمصائب التي لم تخضع للبحث والدراسة، بل نزل عليها التعتيم والاخفاء حتي الآن. ويرتبط بذلك الحدث كارثة قتل الأسري المصريين، حيث قام العدو الاسرائيلي بقتل المئات من الجنود المصريين بالرصاص في جريمة بشرية فظيعة، قامت اسرائيل بالتغطية عليها واخفاء معالمها، وعندما تكشفت معالم تلك الجريمة في عهد الرئيس السادات ثم في عهد الرئيس مبارك- تعمدت الحكومة التغاضي عنها وامتنعت عن اثارتها أمام الرأي العام أو المحافل الدولية. نأتي الي موضوع استراحة الرئاسة، وهي شيء يدعو للأسف وللخجل الشديد، فلا توجد دولة في العالم تقيم لرؤسائها ذلك العدد الكبير من الاستراحات الفخمة، التي تحتاج لمبالغ كبيرة لصيانتها وحراستها وتوفير القوي العاملة بها، كانت البداية بضع استراحات في عهد جمال عبدالناصر، وزادت إلي أكثر من عشرين استراحة في عهد الرئيس السادات، ثم ارتفع العدد الي اكثر من ثلاثين استراحة في عهد الرئيس مبارك. جاءت حرب أكتوبر 1973 كإنجاز بطولي كبير، ومن أروع الأعمال الوطنية التي شهدتها مصر في القرن العشرين، ونالت تقدير العالم كله في حُسن الإعداد لها ودقة تنفيذها، وحققت انتصارا كبيرا لمصر كانت البلاد في حاجة اليه، لم تخل هذه الحرب من بعض التجاوزات والسلبيات وكان أهمها تدخل الرئيس السادات في إدارة الحرب مما تسبب في حدوث بعض الارتباكات والأخطاء، فقد انتهزت قوات العدو الإسرائيلي خلو منطقة غرب القناة من القوات المحاربة، ودخلت بقوة كبيرة اقتحمت قناة السويس واحتلت الضفة الغربية لها مع محاصرة مدينة السويس وحصار قوات الجيش الثاني المصري الموجود في جنوبسيناء، مما أجبر الرئيس السادات علي قبول التفاوض علي عمل هدنة مع العدو، ودخل في مفاوضات معه حتي توقف القتال. الشيء المؤلم والمخزي في هذا الموضوع هو قبول الرئيس السادات ان تكون المفاوضات في آخر نقطة وصل إليها العدو داخل مصر، وهي عند الكيلو 101 شرق القاهرة- وقد سعدت إسرائيل بذلك لأنها أعلنت للعالم كله أنها انتصرت في هذه الحرب، ودخلت أرض مصر واقتربت من القاهرة. أكثر من تألم من ذلك وانتقد التصرفات الخاطئة للرئيس السادات كان المرحوم الفريق سعد الدين الشاذلي، الذي نشر كتابا يحوي تفاصيل تلك الأحداث وتبعاتها وما تلاها من إجراءات، وكان أن قدم لمحاكمة عسكرية وأدخل السجن. ونأتي إلي اتفاقية الصلح مع إسرائيل- والتي أطلق عليها معاهدة كامب ديفيد- في عام 1978، بعد مفاوضات صعبة وممتدة بين الرئيس السادات ورئيس وزراء إسرائيل مناحم بيجين- وتحت رعاية الرئيس جيمي كارتر- رئيس أمريكا. ونظرا لقلة خبرة الرئيس السادات في العمل الدبلوماسي والمحاورات السياسية، قدم العديد من التنازلات للعدو- مما دفع وزير الخارجية المصري المشارك في المفاوضات إلي الاستقالة ثم تبعه استقالة من جاء بعده- ومع ذلك واصل الرئيس السادات المفاوضات السرية مع العدو الاسرائيلي حتي تم التوقيع علي المعاهدة في 17 سبتمبر سنة 1978- وتبع ذلك تعتيم كامل من الدولة علي كل بنودها واخفاء العديد من معالمها- وما قيل عن وجود بنود سرية ملحقة بها، وعندما ثارت الأقاويل والانتقادات في مجلس الشعب وبعض الصحف عن غوامض المعاهدة قام الرئيس السادات بإصدار قانون يمنع مناقشة المعاهدة أو انتقادها أو حتي التعليق عليها. كانت هذه مجموعة من الأحداث والوقائع التي حفل بها تاريخ مصر الحديث، وشاب بعضها الكثير من الغموض والتعتيم، ويحتاج الأمر إلي إعادة دراستها والبحث عن الحقائق المحيطة بها. أري أن الأمر يحتاج إلي تكوين لجنة من المختصين والخبراء للبحث في وثائق رئاسة الجمهورية وفي ملفات مجلسي الشعب والشوري للبحث عن تفاصيل ووقائع تلك الأحداث المهمة والتحري عن حقيقتها والكشف عن الغموض الذي أحاط بالكثير منها. *الأستاذ بكلية الزراعة- جامعة الإسكندرية