"تركتُ لكم كل شيء على حاله"؛ يقول ياسر الزيات في واحدة من قصائده. لكن متى وصل إلى هذه القناعة، ومتى اتخذ هذا "القرار"؟ يتهيأ لي أنه بدأ رحلة استغنائه منذ كان طفلاً، ولم يشارك، كباقي الأطفال، في عراك على قطعة حلوى، أو على نظرة من بنت الجيران. هل ظلم نفسه أم ظلمناه؟ لا أعرف، ولا أظنه يشعر بالظلم أصلاً. هو ليس من النوع عالي الصوت الذي يأخذ حقه بحنجرته، ولا النوع الذي يلجأ إلى "عصابة" لحمايته نظير "إتاوة" مدفوعة من بياض الضمير. إن الحب، كما يخبرنا في ديوانه الثاني، هو الشيء الوحيد الذي يسمح له بأن "يلوِّث" دمه. كان قادراً، وهو الصحفي البارع، أن يصير نجماً شأن نجوم كثيرة "خدَّمت" بتربيطاتها على أشعارها، لكنه منذ أواخر الثمانينيات يكتب قصائده بهدوء، دون أن يدسَّ (أو يدنِّس) نفسه في جماعة أو "ميليشيا" أو تيار. من هو ياسر الزيات؟ إنه يعرِّف لنا نفسه بنفسه: "أنا ياسر الزيات: سليل التجار المفلسين، سليل الشعراء المفلسين، سليل البلاد المفلسة، وسليل الأناشيد الجماعية، والأحلام الجماعية، والمقابر الجماعية". وها هو تعريف آخر: "أنا ياسر الزيات: وحدي، وحيد، خائف. ربما أنا لا أحد، أو لا شيء. فما الذي يعنيه هذا الوجه؟ ما الذي تعنيه العينان المزدحمتان؟ ما الذي يعنيه القلب الغائم الطري؟ ما الذي تعنيه هذه الكتابة العرضية المعلقة في الأصابع؟ ولماذا أبكي هكذا كعاشق خائب، كإرهابي، كمنفيٍّ في ذاته، كنصف برتقالة، كشتات بلا نهاية؟ من أنا حقاً؟". أعرفه منذ بداية التسعينيات: نحيل، صامت، بسيط، كأنه ظل أو طيف. لم أقابله، في الواقع، سوى مرات قليلة، لكنه صديق روحي طول الوقت. بدأ كتابة قصيدة النثر، بحسِّها الجديد، باكراً وقبل أن تكتسح المشهد الشعري كله (نشر قصيدته "الجثة الخضراء" في مايو 1991) لكن لم يقاتل على "أسبقية الحجز" في دور أو طابور. تماماً مثلما لم يقاتل إبراهيم داود أحداً على "ملكيته" لقصيدة التفاصيل الصغيرة التي صارت وصفة شائعة فيما بعد (ديوانه الأول صدر في الثمانينيات باسم "تفاصيل") لأن الاثنين أجمل من أن يتصارعا على جثة الشعر، في معركة بلا شعر. ما الذي يقدمه ياسر في أربعة كتب نشرها، بمنتهى التردد والخجل، طوال أكثر من ثلاثة عقود؟ يقدم لنا وليمة خسائر. الدم والبكاء والوحدة والندم والفقد والخوف والمستشفيات والموت والقبور؛ هي كلمات أو فوانيس سوداء في كتاباته كلها. وما الذي ينتظره منا لنقدمه له؟ ولا شيء. لا منا ولا من الحياة. هو حتى حين هاجر إلى الغرب، لم يتغير شيء فيه. لا ألمه، ولا قناعته، ولا هيئته، ولا لكنته، والأبرز: لا تضاعفت شهرته، ولا تضخمت "ثروته". يعطيك إحساساً بأنه غريب في جميع الأماكن. يذكِّرنا برجُل كفافيس في قصيدة "المدينة" وحياته الخراب أينما حل. إنه أساساً يحسد الموتى "لأن شيئاً لا يتغير في حياتهم"، ويرى أن قمة الخِفة هي النسيان: "عندما تتذكرينني، اغلقي النافذة جيداً، حتى لا أطير مرة ثانية"، وأن ذروة الحرية هي المحو: "تخلصوا مني لتحرروني". كأنه ليس ابن الحياة، وكأن فرحه الحقيقي لا يتحقق إلا في العدم. هذا واحد من أبرز أحلامه: "سأزور بيروت، كما حلمت كثيراً، لأن بها موتاً كثيراً: إنه موت حقيقي، موت مؤكد، وستكون لي عائلة من الجثث". وهذه واحدة من أغلى أمنياته: "أيها الموت: يا إله الذباب والحيوانات البريئة، أرجوك أن تلتهمني". شاعر قصيدة نثر وعاشق المتنبي؛ هل يصلح هذا المزيج "العجيب"؟! يصلح جداً في حالة ياسر الزيات. كأن البلاغة القديمة تنفكُّ بين يديه من تلقاء نفسها مكافأة له على احترامها، عكس كثيرين عاشوا (واسترزقوا) على سبِّها ونفيها. تنحَّت أو تقشرت أو تعرَّت، بكامل رضاها، ودلَّته على روح الشعر؛ على جوهره ونخاعه، لا على أشكاله وجلده وعظامه. لو كان لزاماً على الشعر أن يشبه صاحبه، فإن قصائد ياسر مثله تماماً: بلا شحوم ولا زوائد، وهادئة أو هامسة. هي حتى لو صرخت أحياناً بقوة الألم؛ تخرج الصرخة خرساء أو صامتة، كأنها موسيقى ناعمة، أو على الأصح ميتة، فليس هناك أجمل في عيني ياسر من جمال الموت: "الموسيقى البعيدة المرتجفة، التي تعبر أسماكاً ميتة، وتمسح دماً على طاولة، الموسيقى تبتعد وتموت. سأبقى وحيداً إذن. وحيد وغائم إلى الأبد". في "مدريد 1987" لديفيد ترويبا؛ يقول الكاتب العجوز بنبرة ساخرة: "يكتب كما يتكلم، لأنه يكتب بقدر ما يتكلم". ياسر الزيات يكتب بقدر ما يصمت، وصمته طويل لحسن حظنا، لأن الشعر الحقيقي عدو الضجة والوفرة والغزارة. من حسن حظه وحظنا أيضاً أنه لا أحد يحسبه على الثمانينيات ولا التسعينيات، لأنه، كإنسان، صديق للأجيال، ولأنه، كشاعر، عابر للأجيال. أخيراً، يقول هنري ميشو: "لم يعد الشعر يفرض نفسه، بل يعرض نفسه". ربما كان ميشو على حق، إلا في حالة ياسر. شعر ياسر، يفرض ولا يعرض.