مع بزوغ فجر كل يوم تطل علينا جماعة الإخوان المسلمين بعاصفة سياسية جديدة، بعضها يتبدد مع شروق شمس نفس اليوم، وبعضها يتمدد ويتحول إلي إعصار يهز أركان مجتمع اعتاد علي سياسة الاحتواء والاستقرار منذ آلاف السنين، ولم يتمرس علي سياسة «الكوابيس» والصدمات الفكرية، فلم يكد الشعب المصري يفيق من حلم الثورة حتي وجد نفسه عرضة لطوفان من الاختبارات العصبية والنفسية التي تمهد الطريق لعملية «ترويض» واسعة، والحقيقة أن سياسة الترويض المتبعة حاليا هي سياسة مزدوجة، فهناك ترويض من الجماعة للشعب علي شكل مثلث رأسه عند حماس وأطرافه مشدودة بين طهران والخرطوم، وداخل هذا المثلث مناوشات تبدأ بأخونة الدستور والأمن والقضاء ولن تنتهي عند الأزهر وسيناء وحلايب. في المقابل ترفض القوي الثورية ترويض الإخوان لها وتحاول أن ترد بانتفاضة جديدة في وجه النظام، وتسعي هذه القوي هي الأخري إلي ترويض الإخوان وتيارات الاسلام السياسي، من منطلق إذا كان هذا هو قدرنا، فعلينا أن نتعامل معه ولكن علي أسس ومفاهيم مشتركة، ولعل انتفاضة «سبت الغضب» التي شهدتها مصر مطلع هذا الأسبوع تندرج في إطار صراع الترويض المتبادل بين الشارع والسلطة. وعملية الترويض عند علماء الاجتماع لا تصلح إلا في المجتمعات البدائية التي لا تملك إرثاً حضارياً وسياسياً، فضلاً عن أنها أشبه بالجراحة المؤلمة والمميتة خاصة لشعب عريق يتطلع للحرية، ولسان حال الجماعة ومن واقع دفتر أحوالها وممارساتها منذ أن قفزت علي السلطة يقول إنها تستخدم سياسة النفس الطويل لتمرير مشروعها الدولي، وهي تدرك جيدا أنها أمام عمليَّة «ترويض» مُعَقَّدة جداً، ولكنَّها مُمكنة. وحتي تؤتي هذه السياسة ثمارها سريعاً لابد من إشغال الشعب بما يَمنعه من التفكير في الترويض، وهذا له عدة صُور أهمها: إشغاله بطلب تأمين لُقمة العيش الكريمة، وتغيير سلوكه الفكري ومعتقداته السياسية عبر بوابة «العناد السلطوي». وقبل كل ذلك تعديل الذهنية المرسومة في عقول الشعوب العربية التي اختارت تلك الجماعات للحكم وصوتت لها تحت صور من التاريخ الجميل للحكم الإسلامي حيث يعتقد الكثيرون بل يرددون أن هذه الجماعات سوف تنافس تاريخ عمر بن عبدالعزيز أو تلك الصور الجميلة لهارون الرشيد، أو خلفاء الأندلس، هذه الصور التاريخية تشكل أزمة للإسلاميين، وقد يتحتم علي تلك الجماعات الإسلامية أن تتخلص منها في عقول تلك الشعوب إذا أرادت أن تستمر في الحكم. ولكن الأزمة التي سوف تحدث عندما تكتشف هذه الشعوب أن عمر بن عبدالعزيز أو هارون الرشيد لن يأتي ولن تكون هناك سوي تعاليم قاسية يوازيها اقتصاد أشد وطأة وسياسة لم تختلف عن سابقتها وهناك ستكون النتائج أكبر وسيعود التاريخ من جديد. ويبدو أن مرحلة الترويض لن تطول كثيراً، استناداً إلي التطور الفكري لدي الإخوان المسلمين الذي نبهت إليه رسالة الماجستير التي أعدها أحمد دلول الباحث بوزارة الخارجية الفلسطينية، وتفيد أن الفترة (1954-1970) وما واكبها من قمع وملاحقة بحق الإخوان المسلمين أفرزت مدرسةً فكريةً جديدةً، هي مدرسة سيد قطب وما تفرّع عنها من مدارس خرجت بأفكارها عن المدرسة الفكرية للمؤسس «البنا». وثمَّة مفارقات بين الفكر الحركي ل«سيد قطب»، والفكر الحركي ل«حسن البنا» خاصة رسالة «مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي»، فالبنا في رسالته يؤكِّد علي أنَّ النظام الإسلامي يقوم علي ثلاث دعائم: مسئولية الحاكم، وحدة الأمة، واحترام إرادتها. وهو لا يري أي تعارضٍ بين نظام الإسلام والنظام النيابي، وكذلك لا تعارض بين الدساتير الوضعية والإسلام شريطة أن تعترف تلك الدساتير بسيادة الشريعة الإسلامية وقصور العقل البشري. وفي المقابل أدخل «قطب» مقولةً جديدةً في فكر الحركة، هي أنَّ «هناك تعارضاً شديداً بين فكرتين وتصورين مجتَمِعَين، ونظامين وحقيقتين، الإسلام والجاهلية، الإيمان والكفر، والحق والباطل، الخير والشر، حاكمية الله وحاكمية البشر، وأنّه «لا بقاء لطرف إلَّا بالقضاء علي الآخر، ولا سبيل إلي المصالحة والوساطة بينهما». ولا يحدث التغيير إلا عن طريق الانقلاب والثورة، ولا توجد مراحل أو تدرّج في عملية التغيير، وكما يحدث الانقلاب لدي الفرد عن طريق الهداية، يحدث الانقلاب في المجتمع عن طريق تغيير السلطة وإلغائها. ويطرح «قطب» مفهوم العُزلة في فترة الحضانة إذ إن علي الحركة الإسلامية أنْ تعتزل المجتمع في فترة التكوين لكي تتحاشي كل مؤثرات الجاهلية التي تحيط بها. وهذا يتعارض مع مقولات وأفكار مؤسس الحركة حسن البنا، كما تتعارض مع أفكار خلفه «حسن الهضيبي» الذي رد علي أفكار قطب والمودودي في كتابه «دعاة لا قضاة». وتكمن خطورة هذا التوجه في أن الجيل الإخواني الحالي أكثر تأثراً بأفكار سيد قطب منه إلي «البنا»، وما يخشي منه هو إعصار ما بعد الحضانة والترويض.