بعد أن ذهبت السكرة وجاءت الفكرة يمكنني الآن التعامل مع زيارة أوباما للمنطقة والتي قد يراها البعض بدون مبادرة أو خريطة طريق أو موقف واضح للتعامل مع بقية تحديات وتهديدات المنطقة. لكنني من الممكن أن أحدد أسباب ونتائج زيارة أوباما للمنطقة من خلال بيانات في كلمته في جامعة (أرئيل) أمام مئات من الطلاب الإسرائيليين خلال إحدى عشرة دقيقة، فقد ذكر كلمة إسرائيل 82 مرة، وفلسطين 21 مرة، وسوريا 7 مرات، وإيران 5 مرات، وتركيا مرتين. وفي الحقيقة أن أوباما تعامل مع الزيارة بأسلوب الساحر المحترف القادر علي خداع الأبصار لتحقيق ما يريد وإقناعك به فلا عجب إذن من الكلام عن استقرار المملكة الأردنية وكف يد إيران عن العبث باستقرار أقطار خليجية وعربية، والتغنى ببقاء تركيا ضمن التحالف الذي يعمل على صد إيران ومناوراتها في المنطقة، ليكون الهدف هو تدفق النفط عبر مضيق هرمز لأن المصالح الأمريكية تتطلب ذلك. خاصة أن الملف الإيراني كفيل بوجود أجندة أمريكية إسرائيلية تؤدى إلي حالة مقايضة بين ملفين ساخنين، الملف الفلسطينى، والملف الإيرانى، وبذلك يضرب عصفورين بحجر واحد، الأول القضاء علي المشروع الإيرانى السياسي والنووى وهذا ما أكده ألوف بن رئيس تحرير صحيفة (هآرتس) من أن أوباما كان يرغب في طمأنة إسرائيل من أن واشنطن ستحول دون حيازة إيران لأسلحة نووية بجميع السبل. والهدف الثانى خاص بالملف الفلسطينى وإحياء فكرة الدولة الفلسطينية المكونة من غزة والضفة الغربية وسيناء مقابل إعطاء جزء من صحراء النقب لمصر، لذلك فزيارة أوباما إلي المنطقة لن تكون لها صورة إلا بعد زيارة جون كيرى للمنطقة! فما سيأتى بعد الزيارة قد يكون أهم منها بكثير، خاصة أن إدارة أوباما أرادت تحقيق إنجاز سياسي فتخلت من أجل ذلك عن شرط تجميد المستوطنات آملة بإحياء التفاوض من جديد علي المسار الفلسطينى- الإسرائيلى، لأنه المدخل الأساسى لعملية تسوية شاملة للصراع العربى-الإسرائيلى الذي تريده واشنطن كجزء من ترتيب جديد للمنطقة، ترتيب يعكس تفاهمات أمريكية تحدث الآن مع موسكو وتنعكس علي الموقف الأمريكي من إيران وسوريا، وهما دولتان لهما تأثير كبير في أوضاع العراق ولبنان والأردن والخليج العربى، وفي مستقبل القضية الفلسطينية مع إسرائيل، خاصة أن طهران ودمشق لهما علاقات خاصة مع قوي المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، ولا يمكن تحقيق استقرار سياسي وأمني في العراق ولبنان والأردن ومنطقة الخليج العربى في ظل تصاعد الأحداث الدامية في سوريا ولا يمكن تحقيق التسوية الشاملة مع إسرائيل من دون الجبهتين السورية واللبنانية، مما يتطلب وضع الملف الفلسطيني وقضاياه الكبرى (الدولة - الحدود - مصير اللاجئين - القدس) علي سكة التفاوض من جديد مع إسرائيل. ولأن لعبة السياسة تعرف فنون التنازلات التي تكون دائماً بمقابل من هذا المنطلق يمكننا تفسير تصرف نتنياهو تجاه تركيا واتصاله معتذراً لها عن حادثة الاعتداء علي «سفينة مرمرة» عام 2010 وتعهده بدفع تعويضات لأسر الضحايا والتنسيق بين إسرائيل وتركيا حول عملية السلام. واتفق قادة تركيا وإسرائيل بوساطة من أوباما علي تطبيع العلاقات الثنائية بما في ذلك إرسال السفراء وإلغاء الخطوات القانونية ضد الجنود الإسرائيليين. وهذا الاعتذار لتركيا عن هجوم سفينة «مرمرة» بمثابة اعتراف بأن تركيا قوة مؤثرة في المنطقة، رغم تشكيك أليعازر ماروم، قائد القوات البحرية الإسرائيلية السابق، في صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية، في توقيت ودوافع الاعتذار الذي قدمه رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو إلى تركيا بشأن حادث الاعتداء علي السفينة «مرمرة» التي كانت تحمل علي متنها مساعدات إنسانية إلي قطاع غزة، حيث قال: «إن اعتذار إسرائيل لتركيا عن حادث اعتراض السفينة مرمرة التركية لا يضمن إعادة العلاقات الإسرائيلية - التركية إلي ما كانت عليه، مستبعداً عودة العلاقات بين الجانبين بين عشية وضحاها. وفي الواقع أن روبرت ساتلوف مدير مركز واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، الذراع الفكرية للوبى الأمريكى-الإسرائيلى الموالى لتل أبيب، فسر زيارة أوباما لإسرائيل حين قال إن «إدارة الرئيس أوباما تبنت الموقف الإسرائيلى في استئناف عملية السلام والمفاوضات المتوقفة منذ عام 2010، وبدون شروط، وتعمد أوباما أن يعلن عن ذلك الموقف أمام رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في رام الله، وهذا يتعارض كلياً مع شرط الفلسطينيين الذين يصرون علي وقف الاستيطان الذي يغير الوقائع علي الأرض. ويؤكد ساتلوف أن «هذه الزيارة لم تنجح فقط في إعادة التواصل العاطفى مع الإسرائيليين، بل على عدة أصعدة عميقة، أولها التحول الجوهرى في الموقف الأمريكي والانحياز للموقف الإسرائيلى بضرورة استئناف المفاوضات دون شروط مسبقة وهو ما عبر عنه أوباما الذي ساق أكبر تأييد لإسرائيل في تاريخ كل رؤساء الولاياتالمتحدة، وذلك ضمن خطابيه الأساسيين خلال هذه الزيارة، سواء في مركز المؤتمرات أمام الشباب الإسرائيليين، أو أثناء تقليده الوسام الذي منحه إياه الرئيس الإسرائيلى شيمون بيريز جاء بأقوى تأييد للصهيونية وهو ما لم يفعله أي رئيس أمريكى، وزيارة أوباما للمنطقة تؤكد أنه في عهده الثانى، يدرك أهمية أن يكون العام الجارى هو عام «الإنجازات» في السياسة الخارجية، في ملفات يرتبط معظمها بالتفاهمات المنشودة مع موسكو. وهناك مؤشرات عديدة الآن تؤكد وجود أجواء إيجابية في العلاقات الأمريكية-الروسية، كان آخرها إعلان وزير الدفاع الأمريكى تشاك هايجل عن إلغاء المرحلة الأخيرة من مشروع الدرع الصاروخية الأمريكية في أوروبا، والذي كانت موسكو تعترض دائماً عليه، إلي جانب أن هناك ما يؤكد اتفاق أوباما وبوتين حول رفع يد أمريكا عن دعم المعارضة السورية وترك الأمر السورى لروسيا تفعل به ما تريد، وتلك هي لعبة السياسة التي لا تعرف سوى المصالح.