ولم يكن موعود الأنبياء بالذى ينفى اللجاجة والعناد، ولا هو بالذى يرفع المحسوس المرئى إلى مراتب الأفق العقلية والروحيّة، لذلك لجّوا فى عتوهم وتكذيبهم «فأتنا بما تعدنا إنْ كنت من الصادقين»، فالتكذيب عناد يطلب أن يكون الشهود الحسى حاضراً فى المستوى المقرر سلفاً بحكم مجرى العادة، وبحكم الواقع الذى تجرى فيه العبادة. تلك كانت صورة رائعة من واقع الذين سبقوا، ومُرَوِّعة يرسمها البيان الإلهى للعبادة حين تنقلب استعباداً: فالعبادة الحقة لا تكون ولا تصحُّ إلا لله، وإنما الاستعباد فهو مجعولٌ للأهواء والشهوات وللعادات والمألوفات، تنغلق فيه نوافذ الحرية بكل مفاهيمها: حرية الفكر، وحرية الاعتقاد، وحرية التنقل الدائم فى هاته الرياض العلويّة حتى إذا انغلقت تلك المفاهيم للحرية انغلقت الحيوات الثقافية والأخلاقية والطبيعة والروحية والإنسانية على وجه العموم، ممّا يجعل الصورة المرسومة، وإنْ تكرّرت فى جيل، هى بالضبط وصفاً لأخلاق العبيد، وأهواء العبيد، ومطالب العبيد، وأفكار العبيد الذين يرتضون لأنفسهم جهالة التقليد بديلاً عن حرية العقيدة وحرية المعرفة والتفكير فى شتى الأجيال. وكل هذا أو بعضه، بابٌ يؤدى إلى الافتراء قصداً من أول وهلة، وفى أشدّ معانيه خصوصية، فالمقلد رجل مفترى تركب عقله الجهالة العمياء، فلا يتسامح ولا يتعرّف على أفكار الآخرين بوجه من الوجوه، بل ينغلق على نفسه أشدَّ ما يكون الانغلاق، وينكفئ على ذاته انكفاء العزلة والتحجير. والمقلد مفترى لا تثور طواياه أبداً ثورات التجديد. وافتراؤه فى اتباعه وتقليده ومحاكاته للآخرين بغير تحكيم عقل ولا تمكين فؤاد. المقلد تلفُّه العصبية ويطويه الكبر البغيض. هذه الصورة التى يرسمها القرآن تكررها لنا النسخ الآدمية تكراراً معتاداً، توجد بين الناس من لدن آدم، وستظل إلى أن تقوم الساعة حتى إذا تكرّرت على ألسنة الأنبياء والرسل أعطت الإشارة المعجزة فى طلاقة النّصّ القرآنى بالإخبار عن حقيقة الإنسان الأصلية من جهة، ثم من جهة أخرى كشفت عن بديهة يغفلها كثيرون، وهى أن دين الله لا يؤخذ بالتقليد، ولا بدّ فيه من مباشرة ذاتية، ومواجهة مع الله، لا من حيث إنك نسخة آدمية، بل حقيقة آدمية فيها سرّ الروح الإلهى وفيها التكريم، لا يجوز معها التقليد لأحد، ولا محاكاة أحد، ولا سلطان لأحد على أحد، بل تلقى من الله، وعن الله مباشرة بغير حسبان رقابة لأحد سوى سلطان الضمير.