ماذا لو جاء قرار خيرى بشارة بالعودة إلى عالمه الأول الأفلام القصيرة، الذى ترك بصمة فيه؛ إلى جانب استخدام الكوميديا السوداء كقوة ناعمة، لتنبيهنا إلى ما نخطو إليه جميعا من سيطرة الحزن واليأس علينا وتحولنا إلى آلة صماء بلا قلب أو مشاعر، بل إن الشعور فى ذلك الوقت سيصبح جريمة نعاقب عليها. هذا ببساطة ما أراد بشارة العزف عليه فى مقطوعته السينمائية فى سلسلة قدمتها نيتفليكس «فى الحب.. والحياة» من خلال 8 أفلام قصيرة منفصلة تعكس منظور الحب فى إطار درامى فى 6 دول عربية مختلفة، وهى (مصر، وتونس، والمغرب، وفلسطين، والسعودية، ولبنان)، ويحكى كل فيلم من السلسلة عن قصة تتعلق بالحب وتدور أحداثها جميعها فى يوم واحد وهو عيد الحب، وتعرض السلسلة فى 190 دولة ومترجمة ب33 لغة ومدبلجة إلى 5 لغات. فيلم «يوم الحداد الوطنى فى المكسيك» من تأليف: نورا الشيخ، وبطولة: آسر ياسين، بسمة، ندى الشاذلى (تعيش فى كندا وتقدم الموسيقى المستقلة)، على صبحى، نورا شيشة، ليعود بنا إلى خيرى بشارة مخرج السينما التسجيلية، صاحب الرؤية الأميل إلى طرح الواقع بأبعاده الإنسانية منذ (صائد الدبابات 1974) و(طبيب فى الأرياف 1975) و(طائر النورس 1977) و(تنوير 1978). ويبدو أنه كما تعود منذ فيلمه الروائى الأول (الأقدار الدامية) عام 1980، يميل إلى التضاد دوما فإذا كان فى تجربته الأولى يقدم التضاد بين الطبقة البورجوازية وبين الطبقة العاملة الكادحة؛ فإنه فى فيلمه الأخير يظهر هذا التنافر بين الخنوع وتنفيذ الاوامر إلى حد الشعور بموات الارواح وبين عشق الحياة والإحساس بالحب. وهو هنا يسلك نفس أسلوب عمله الثانى فى (العوامة رقم 70) بطرح أسلوب يميل إلى تجريد الفكرة وعرضه بقوة، وكأنك أمان تحقيق صحفى يحقق فيما حدث للناس طارحا المعطيات والتى فى النهاية ستأتى بنا إلى النتائج. ويقدم النموذجين السلبى بكل خنوعه أو قسوته والعنصر الإيجابى الذى يكون له دور ويحاكم المتردد بل ويدفعه دفعا إلى أن يكون العنصر صاحب القدرة إلى اتخاذ قرار التغيير؛ بل ويخرجه من منطقة تهميش ذاته إلى مرحلة العودة إلى الاستقلالية والدفاع عما يعتقد، طارحا من خلال فيلم «يوم الحداد الوطنى فى المكسيك» حالات وأجواء لا تعتمد على الحدوتة والحبكة الدرامية، بمقدار اقترابه من السرد النفسى والانفعالى للشخصيات أنه بناء درامى يكون فيه للمشاهد الدور الأساسى فى اتخاذ القرار هو الآخر، فيما يعيشه فى محيط نفسه، أو المجتمع الذى يعيش فيه. وإذا كان فى فيلمه (يوم مر.. يوم حلو) يحكى تفاصيلنا الإنسانية البسيطة وتفاعلنا معاها بشكل يومى فإنه هنا وفى فيلم «يوم الحداد الوطنى فى المكسيك» يطرح سؤال ماذا لوعشنا فى عالم بلا حب؟، ويصبح الاحتفال فيه بعيد الحب جريمة؛ بل ويتجاوز ذلك إلى أنك تعاقب على خفقان قلبك ومشاعرك بجهار يقيس انفعالك؛ وكأنه وباء مثل كوفيد 19 الذى ابتلينا به، وأصبح قياس درجة الحرارة، وإثبات خلوك منه بالتحاليل جواز مرورك من مكان إلى آخر. السؤال قد يعتبره البعض فانتازيا غير قابلة للتطبيق فى الواقع، ولكننا نطبقها ليل نهار عندما تحولنا جميعا للتفتيش فى حياة الآخرين ووضع قوانين مجتمعية صارمة حول حياة الناس الشخصية بمنتهى القسوة؛ فهل جاء خيري بشارة مع فيلمه «يوم الحداد الوطنى فى المكسيك»، ليجعلنا نفكر ولو قليلا فيما نفعله بأنفسنا والآخرين. خيرى بشارة بأسلوبه الرشيق الحيوى، المازج بين الواقع والخيال، ساخرا من تناقضاتنا بشاعرية حزينة، مع زيادة حدة الصراع داخل البطل الذى كان يعيش حالة من الاستسلام لما فرض عليه من رفض للحب؛ ولكنه اتخذ القرار، الذى لم يكن سهلا ظن عندما وجد نفسه يسقط هو نفسه فى براثنه، ويفقد حبيبته إلى تمرد على هيئة منع الحب وارتدت فستانًا أحمر وأطلقت البلالين والقلوب الحمراء فى سماء البلد. وعرج بنا بشارة بشكل سريع إلى تاريخ البطل الذى لعب دوره آسر ياسين وأحلامه وعلى علاقاته بمن حوله لنعرف أنه أيضاً كان ضحية هذا المجتمع الذى يخنق الحب والمشاعر. وخاصة فى ظل الشخصية الإيجابية المتمثلة فى خطيبته، التى لم تتغير وهى المثقفة المتحررة المحبة للحياة، والتى كان يراها هو نفسه كذلك، وكتب فيها شعرا تناساه فى ظل الأمر الواقع، ولكنها تطبع له أشعاره فى ديوان من نسخة واحدة تهديها له يوم عيد ميلاده، لعله يتمرد ويعود إلى طبيعته المحبة ويرفض التزييف الفكرى الذى يشارك فيه ويمارس عليه برقابة ذاتية، تجعله يذكر للمستمعين إليه فى الاذاعة أن اليوم هو «يوم الحداد الوطنى فى المكسيك»، بدلا من تذكيرهم بأنه يوم عيد الحب. والمشهد الأخير من الفيلم يوضح لنا أنه نفسه كان يكذب وهو مخترع تلك الاكذوبة التى لا أساس لها من الصحة. وقام خيرى بشارة بتوظيف إمكانياته التقنية والفنية لإظهار فيلمه «يوم الحداد الوطنى فى المكسيك» بشكل شيق وغير ممل، وطارحا أفكارًا عديدة منها ما تقدمه شخصية بسمة التى تبدو للمشاهد أنها ضد القرارات التعسفية لهيئة النهى عن الحب، ولكنها هى نفسها كانت مستفيدة من هذا المنع، لأنها كانت تكسب من ورائه بيع كل هو ممنوع، ولعلها تذكرنى بخفافيش الظلام الذين يظهرون غير ما يبطنونه ويستفيدون من تقليل هامش أى حرية. وظف بشارة مفرداتها لتحقيق فكرته بعيدا عن المباشرة، بفكرة وطرح ومعالجة بسيطة؛ وهذا سر جمال فيلمه «يوم الحداد الوطنى فى المكسيك» حيث سرعة الإيقاع، وزوايا تصوير منسجمة مع الأغانى والألحان التى أكملت الصورة. مع الأداء التلقائى الطبيعى للممثلين، مع أنماط مختلفة من البشر تقدم رؤيته وتعطى للفيلم مذاقًا خاصًا، بهذا المجتمع الصغير ذى الأنماط المختلفة فى نسيج درامى واحد ملئ بالسخرية من واقعنا، ومدى تأثرنا بما يفرض علينا بدون تفكير، بمشاهد ناعمة وسلسة ومعبرة. يتخطى خيري بشارة فى فيلمه الزمان والمكان بعالم خيالى لمجتمع مرعب رافض للحب وهو بذلك يهرب من الهجوم الذى تناله تلك النوعية من الأعمال، والتى يصورها البعض بأسلوب مكارثى، ويتهم فيه المبدع بالعديد من التهم سابقة التجهيز. وخاصة أن خيرى بشارة يرى أن فيلمه بمثابة تحية لفيلم المخرج الفرنسى فرانسوا تروفو «فهرنهايت 451» 1966. يعتبر تروفو واحدًا من مؤسسى الموجة الجديدة فى السينما الفرنسية، حيث تدور أحداث 451 فهرنهايت فى مجتمع قمعى مستقبلى حيث ترسل الحكومة رجال الاطفاء لكى يدمروا كل الآداب بهدف منع التفكير والثورة. وبطل الرواية هو رجل الإطفاء «مونتياج» يلتقى صدفة بجارته المثقفة وتدعى كلاريس وقد قامت بجذبه وإقناعة بقراءة رواية جميلة حيث كانت النتيجة سريعة إذ وقع مونتياج فى حب التراث الإنسانى العريق؛ الذى لم يكن يعلم عنه لولا كلاريس. وبالتدريج تمرد هو أيضاً على السلطة. هذا العمل رد على الإرهاب الثقافى الذى مارسه السيناتور جوزيف مكارثى على الكتاب والمثقفين فى أمريكا؛ وبطل عملنا يدور فى نفس فلك بطل ترافو فى مجتمعنا الشرقى فى أى زمان أو مكان. وأخيرا إنه حب للحرية والحب فى إطار عودة لسينما خيرى بشارة ذات المذاق التسجيلى المعترض.