كان عشقه للغة اليونانية نقطة انطلاقته الأولى نحو عالم الترجمة الرحب، حتى تحول إلى أشهر مترجم من الأدب اليوناني، وصارت ترجماته مراجع يؤول إليها كل باحث في اللغة، ومنقب عن أدب يوناني خالص. هو الدكتور خالد رؤوف، المنسق العام للمؤسسة الثقافية لليونان بالاسكندرية، والمترجم الأشهر، والذي قدم للمكتبة العربية ترجمات لنحو خمسة وعشرين من الكتّاب اليونانين الكبار، بينهم نيكوس كازانتاكيس، يانيس ريتسوس، ذيمتيريس ذيميترياذيس، كوزماس بوليتيس، ستراتيس تسيركاس، ثيوذوروس غريغورياذيس، وغيرهم، ليتجاوز إنتاجه الأربعين كتابا مترجما. حصل رؤوف مؤخرا على جائزة الشيخ حمد في مجال الترجمة فرع اللغات الفرعية فئة "الإنجاز في الترجمة، (اللغة اليونانية الحديثة) عن اليونانية إلى العربية، وذلك عن مجمل أعماله. ولأنه مثّل بما قدم رافدًا مهمًا من روافد التواصل بين لغتين، بل بين حضارتين، المصرية واليونانية، وتجاوز دور المترجم إلى المؤصل والمؤرخ المترجم في أحايين كثيرة، لذا كان حوارنا معه ضروريًّا. * التاريخ والترجمة.. علاقة أبدية: ولأنه بدأ حياته الأكاديمية دارسًا للتاريخ في جامعة الاسكندرية، ثم اتجه لدراسة اللغة اليونانية التي أتم اتقانها في اليونان، فإن رؤوف يرى ارتباطا حتميا بين التاريخ واللغة، فاللغة هي القاريء الأول للتاريخ والأحداث، وما العلوم الا خلقت مرتبطة ببعضها البعض دون انفصال أو تخصص، مستطردًا أن ذلك الارتباط يراه داخله، فهو مولع باللغة اليونانية وبالتاريخ في آن واحد. * الفارق بين الترجمة من اللغة الأم وعن لغة وسيطة: يرى رؤوف أن هناك فرقا شاسعا بين الترجمة من اللغة الأم والترجمة عن لغة وسيطة، فالاخيرة لا تؤدي الهدف الأساس من الترجمة الجيدة، وهو نقل الأفكار والأسلوب ذاته ولكن بلغة جديدة. موضحًا أن ترجمة النصوص من لغة وسيطة يفقدها الكثير من الأفكار والأسلوب، حتى يكاد الأمر يصل حد التشويه للنص الأصلي. مؤكدا أن اكتشافه هذا كان دافعه الأول والأكبر لاقتحام عالم الترجمة من اليونانية إلى العربية مباشرة، وتقديم النصوص والأعمال كما كتبت، مضيفا أنه اكتشف أخطاء فادحة في ترجمات عن لغات وسيطة في الأسماء والأماكن والأسلوب ذاته. واستطرد خالد رؤوف أن دافعه الآخر لخوض غمار الترجمة من اليونانية كان عشقه للحضارة والثقافة اليونانية، ورغبته في نقل أكبر قدر من تلك الثقافة إلى العربية، بشكل صحيح يخلو من أي تشويه، كما أن دافعه الثالث كان رغبته في تقديم شعراء وأدباء يونانيين معاصرين، ليسوا مشهورين في العالم العربي، فمزج بين ترجمة الاعمال الكلاسيكية والمعاصرة لتصبح هناك رؤية بانورامية عن الأدب اليوناني لدى القاريء العربي. * صفات المترجم الجيد: وعن تلك الصفات، يقول رؤوف إن المترجم هو كاتب وباحث أولا، فلابد أن يلم بثقافة البلد التي يترجم عنها، مؤكدا أنه شخصيًا يجري ما يشبه البحث عند قيامه بترجمة أي عمل، وقد يصل الأمر لمطالعة عشرات الكتب، فالترجمة هي إعادة انتاج أفكار الكاتب في لغة جديدة. ووصف المترجم الجيد بقوله: انه ذلك المثقف المطلع الأديب الباحث، مؤكدا أنه دائما ما يضع أمام عينيه أن تلك الترجمة التي يضعها ستكون بمثابة مرجع للدارسين والباحثين وليست مجرد عمل يقدم للقاريء، وهو ما يجعله يبذل قصارى جهده لتقديم الأفضل. * طقوسه في الترجمة: وعن طقوس د.خالد رؤوف عند ترجمته أي عمل، يقول إنه يتبع ما أسماه القراءات السبع للنص، فيجري ما يتجاوز البحث الذي قد يصل لاطلاعه على عشرات الكتب والقواميس للتعرف على لغة او لهجة او اسلوب العمل، وهو ما تستغرقه ترجمة قصة او رواية قصيرة قد لا تتعدى الخمسين صفحة. مؤكدا أن الترجمة تحتاج حزمة من المهارات لتحقيق سهولة في أداء المهمة، أو ما يطلق عليه الموهبة، فبدون الموهبة ليست هناك ترجمة جيدة. * شعراء استمتع بالترجمة عنهم: وعن أكثر الشعراء والكتاب اليونانيين الذين استمتع عند ترجمته، قال ان كفافيس شاعر ممتع ومثل تحديا لي، فهو يمتلك قاموسا خاصا به، لدرجة أنني حتى اترجم له قصيدتين قرأت أربعة كتب. * كتب أرهقته: ابتدرني هاتفا: كان إرهاقًا ممتعًا، وهو ما حدث عندما ترجمت للكاتب ديمتريس ديمترياس، وهو من أهم كتاب أوربا بوجه عام، فهو مثقف على مستوى رفيع، فروايته التي أصدر ترجمتي لها المركز القومى للترجمة تحت عنوان " أموت وطنا" قد استغرقت منذ بدء ترجمتها عشرة ايام، رغم أنها رواية قصيرة، بل إنها ظلت بحقيبتي أعيد قراءتها مرارا لسبع سنوات كاملة قبل أن ابدأ بترجمتها، فقد دفعتني تلك الرواية للبحث والاطلاع في كثير مما تضمنته. مضيفا أن من بين ما استدعت ترجمته وقتا في البحث أيضا هو كتاب "التحول"، للكاتب ذاته. * أزمة الترجمة بمصر: وفي حديثه عن أزمة الترجمة في الوطن العربي، أكد رؤوف أنها تتمثل في سوء التنسيق بين المترجم والمؤسسات المختلفة، فليس هناك تنسيق مثلا بين الثقافة والتعليم والجامعات وسوق العمل، فكثير من المؤسسات الثقافية مثل المركز القومى للترجمة وهيئة الكتاب يبذلون مجهودا رائعا، لكنهم يعملون في جزر منعزلة دون إستراتيجية محددة للترجمة. مؤكدا أن المترجم يواجه أزمة حقيقية، فكثير من دور النشر تتعامل معه كأنه بقال، وليس مبدعا وباحثا، كما أن عدم التقدير المادي المناسب لمجهوده يدفعه لامتهان مهن أخرى وهو ما يستقطع من وقته وتركيزه في الترجمة، حتى لم يعد هناك من المترجمين من يتفرغ كلية للترجمة. *تأثر الأدباء اليونانيين بمصر: ألقيت عليه سؤالي فاتسعت ابتسامته وتحولت لضحكة عالية قائلا: إنهم متأثرون بمصر بشكل "يغيظ"، وراح يحكي: في السنوات الأولى لي في اليونان لفت نظري ذلك العدد الكبير من عناوين الإصدارات الإبداعية التي تحمل اسم الإسكندرية او القاهرة او مصر، فظللت أجمع ما يقابلني منها حتى احتوت مكتبتي على ثمانين عملا على ذلك المنوال، وكانت جميعا سيرا ذاتية ليونانيين عاشوا في مصر، يجترون ذكرياتهم على الورق. واستطرد: لم تكن معظم تلك الاعمال لكتاب مشهورين، إلا أن من أهم الكتب اليونانية التي تحدثت عن مصر، كانت ثلاثية " مدن جامحة"، للكاتب ستيراتيس تسيركاس، والتي ترجمتها وصدرت عن القومي للترجمة، وهي تتناول حقبة الأربعينيات بين القاهرةوالإسكندرية، وهي تتحدث عن مصر بعيون يونانية، وتعد إحدى العلامات الفارقة في الأدب اليوناني. وعن ستيراتيس، يقول رؤوف: إن ذلك الكاتب يقيم بعابدين، وعمل بالصعيد ومعظم محافظات مصر، وكان والده حلاقا، فارتبط بكل طبقات الشعب المصري، وحمل أول ديوان شعر له عنوان " الفلاحين"، متحدثا عن فلاحي مصر. كما تناول كتابه "نور الدين بومبة"، فترة ثورة 19 وما اعترى المجتمع المصري من تحولات جذرية صاحبتها. وقد كثرت روايات ستراتس التي تدور بين القاهرةوالإسكندرية. أما عن أدباء اليونان المعاصرين، فأكد رؤوف أن منهم أيضا من تأثر بمصر، لكن زاوية تأثره مختلفة، تنبع مما سمعه من الأجداد وما قرأه، وعلى سبيل المثال هناك رواية بعنوان "أيام الإسكندرية"، للكاتب المعاصر ذيميتريس ستيفاناكيس. * الأدب المصري في اليونان: وعن تأثر اليونانيين بالأدباء المصريين، أكد رؤوف أنهم مولعون بنجيب محفوظ وصنع الله ابراهيم الذي صنع حالة من الدهشة بين القراء اليونان، مؤكدا أن القاريء اليوناني نهم جدا، ومتعطش لكل ما هو مصري على الأخص، فعشرة ملايين هو عدد السكان، ورغم ذلك فإن الطبعة الواحدة من أي عمل يبلغ عدد نسخها عشرة آلاف نسخة وتنفد جميعا. * خطط مقبلة: واختتم خالد رؤوف حواره، متحدثا عن خططه المقبلة في الترجمة، مؤكدا أنه يضع الآن انطولوجيا في الشعر اليوناني الحديث تضم الكثير مما ترجم لشعراء يونان معاصرين، يرى أن أدبهم يستحق أن ينقل للقاريء العربي.