النهضة الصناعية التى شهدتها مصر فى الستينيات، ليست من اختراع الرئيس جمال عبد الناصر، ولكن من ابتكار نخبة من خبراء الاقتصاد والصناعة المصريين، وعبد الناصر كان محفزا وداعما سياسيا لهذه النهضة، واعتذر عن استخدام لفظ «النهضة» والذى صار سيئ السمعة ومثيرا للسخرية حاليا، بعد أن تم ابتذاله وتفريغه من مضمونه من كثرة استخدامه عمال على بطال هذه الأيام. على أى حال، كانت مشروعات التنمية فى الستينيات متكاملة إلى حد ما، وعلى سبيل المثال كانت الجدوى الاقتصادية لبناء السد العالى هى توفير الطاقة الكهربائية لإنارة وكهربة الريف، وأيضا لتشغيل المصانع الجديدة أو المزمع إنشاؤها.. ومن هذه المصانع كان مجمع الألومنيوم فى نجع حمادي، لأنه من المشروعات الضخمة التى تحتاج إلى طاقة كهربائية كبيرة لتشغيل أفران صهر الألومنيوم، ولهذا تم البدء فى إنشاء المجمع بعد الانتهاء من إنشاء السد. وكان لابد من اختيار المكان المناسب لإنشاء المجمع، ويبدو انه كان يجب أن يكون قريبا من السد إلى حد ما، وأيضا من ميناء بحرى لتقليل تكاليف وزمن عمليات نقل المواد الخام المستوردة وكذلك إنتاج الألومنيوم المصدر إلى كل أنحاء العالم..فتم اختيار مدينة نجع حمادى لأنها اقرب نقطة من ميناء سفاجا على البحر الأحمر، ومن أسوان السد. كما تم اختيار منطقة مهجورة فى غرب النيل، وهى ملاصقة لصحراء «هو» الشهيرة التى كانت تعتبر آخر حدود العمران فى نجع حمادى حيث تضم مدافنها.. فى هذه البقعة القاحلة الجرداء تم إنشاء مجمع الألومنيوم.. وهى منطقة تمتد باتجاه الجنوب من قرية «هو» إلى قرية «الوقف» فى دشنا والتى كانت مرتعا لقطاع الطرق وتجارة المخدرات والأسلحة.. وكان الذى يريد أن يسلك طريق غرب النيل للذهاب إلى قنا أو الأقصر بدلا من الطريق الزراعى الممتد بين القرى على شرق النيل كان يعلم انه يقوم بمغامرة لا يعرف نهايتها.. حيث كان سكان غرب النيل ليس لديهم شيء يخافون عليه ولا منه.. فلا خدمات صحية أو تعليمية أو حتى أمنية، وكانت هذه المنطقة لا تصدر سوى المخدرات والأسلحة التى يتم تهريبها عبر البحر الأحمر وغيره ولهذا كانت معارك الثأر بين العائلات والقرى لا تتوقف وكان هناك من يشعلها باستمرار لرواج سوق بيع الأسلحة..وبالتالى المخدرات بكل أنواعها. ولكن..عندما بدأ إنشاء مجمع الألومنيوم تم أولا إنشاء معهد لتأهيل وتدريب أبناء المنطقة المحيطة على قيادة السيارات وكعمال وفنيين فى مختلف المجالات التى يحتاجها المجمع خلال الإنشاء أو عند بدء التشغيل.. وبالتزامن كان يتم تشييد نواة مدينة سكنية لتسكين العمال والفنيين والمهندسين والإداريين سواء من أبناء المنطقة أو المدن المجاورة أو من القاهرة وإسكندرية وغيرهما. كما تم استصلاح مساحة أرض كمزرعة للخضروات والفاكهة وأيضا أنشئت مزارع للثروة الحيوانية والداجنة لتمد السكان بكل احتياجاتهم من كل شيء حتى البيض والألبان والجبن وعسل النحل. بالإضافة إلى إنشاء مدرسة لاستيعاب أبناء العاملين بالمجمع، وإنشاء ناد اجتماعى ورياضي.. كل ذلك كان يتم بالتزامن مع مراحل إنشاء المجمع..وفى خلال سنوات قليلة تحولت بقعة الصحراء القاحلة إلى جنة الله على الأرض، وهى نفسها التى كانت تؤوى منذ سنوات قليلة أيضا قطاع الطرق وتجار الأسلحة والمخدرات.. وفى ظل الحياة الآمنة والمحترمة والرغدة التى وفرها المجمع لكل من يعمل فيه ترك كل شباب هذه المنطقة حياة الإجرام والتحقوا بالعمل فى المجمع.. فكانت النتيجة، ليس فقط، إنشاء مجمع لتصدير الألومنيوم وزيادة الدخل القومي، بل إلى عامل مؤثر فى إحداث تغيير جذرى «ديموجرافى» فى المكون الثقافى والاجتماعى والاقتصادى للمنطقة كلها.. وكان هذا بمثابة الخيال الذى تجسد على ارض الواقع، وهو بالتحديد الذى نحتاج إليه فى الوقت الحالي، لأن هذه المشاريع تستوعب أعدادا كبيرة من الأيدى العاملة، وتوفر دخلاً قومياً كبيراً، وتقيم مدنا وتجمعات جديدة بعيدا عن الوادى الضيق..فهل نستلهم تجربة نجع حمادى فى النهضة بدلا من البحث فى تجارب اليابان وغيرها؟!