إذا كان الدعاء هو مخ العبادة فالإبداع هو بوصلة الثورات، من هنا تأتي «متاهة» مصر الإخوانية التي لم تتلمس طريقها بعد إلى حلول غير تقليدية لأي من مشكلاتنا الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية، فما بالك بقضايانا الفكرية ومشروعاتنا الثقافية وإبداعاتنا الفنية، عندما فضلنا حكم الإخوان على الفلول كنا نطمح إلى مهارة الجراح وليس إلى مسكنات العطار للتخلص من آلامنا ونفض همومنا، ولكن للأسف الشديد لم نجد بلح الشام في سياسة الجماعة ولا عنب اليمن في مشروع النهضة، وزاد الطين بلة القهر الفكري الثقافي عبر فتاوى التكفير للمبدعين والمعارضين. والتاريخ المصري والدولي ملىء بحضارات وثورات قامت واندثرت ولم يتبق منها سوى وميض الإبداع الذي يتلألأ في سماء المنطقة ، وهناك ثورات لم تكتمل لغياب الحلول المبتكرة وتقييد حركة المبدعين، والثورات قد يصنعها أشخاص عندما تخفق الجماعات والشعوب، ولنا في حضارة الفراعنة إبداعات تبهر العالم منذ آلاف السنين، وليس مطلوبا من الحكومات الثورية أن تنجح في كل شىء، ولكن في الوقت نفسه ليس منتظرا منها أن تفشل في كل شىء، وهنا أيضا لنا وقفة مع ثورة 52 التي أخفقت عسكريا وترنحت سياسيا إلا إنها تشبثت بمشروعها الثقافي وأغرقت المنطقة بقوافل من المبدعين والفنانين مازالت لهم اليد الطولى في التأثير على المكون الثقافي لعدد من شعوب المنطقة رغم رحيل هذه الثورة ورجالها. المبدعون دائما هم فرسان الثورات وهم وقودها حينما تخمد أو تضل الطريق، تذكرت هذا وأنا أنقب على ما تبقى من ثورة 52 باعتبارها الأقرب تاريخيا إلى الأجيال الحالية التي ثارت على أنظمتها، وحرصت أن أتلمس هذا الأثر عند الاسرائيليين من خلال إعلامهم المتحامل على حقبة عبد الناصر ورفاقة، وإذا بي أجد العداء السياسي بدأ يخبو لحساب المد الثقافي المصري الذي راح يسيطر على وجدان الأجيال الاسرائيلية التي تناست جنرالات هذه الثورة ولم تعد تتذكر منها سوى كوكب الشرق ورفاقها من الشعراء والملحنين المبدعين. أقول هذا لأن آخر التقارير التي صدرها موقع الخارجية الاسرائيلية حمل مفاجأة لم أتوقعها وهي أن أم كلثوم المصرية تتربع على عرش الشهرة في اسرائيل، وأن سيدة الغناء العربي الأولى تستقطب المزيد من المعجبين والمعجبات في اسرائيل، حتى الذين ولدوا بعد ان رحلت عام 1975، مخلفة منبعا غنيا ينهل منه الكبار والصغار، العلمانيون والمتدينون، كلٌ بأسلوبه الخاص. وفي المهرجان الموسيقي بمناسبة يوم المرأة العالمي في الشهر القادم، ستقوم المغنية ميري مسيكا بأداء اغانٍ لعمالقة الغناء النسوي منها أم كلثوم الى جانب اديت بياف الفرنسية ومرسيدس سوسا الارجنتيني، وهذه العروض ما هي إلا مفردات فنية تعكس مقام أم كلثوم الذي اصبح في مصاف عمالقة الفن العالميين في نظر الجيل الجديد في اسرائيل. وأفاد تقرير الخارجية الاسرائيلية أن اغاني ام كلثوم قطعت شوطا كبيرا في المشهد الثقافي الاسرائيلي منذ رحيلها، حيث تخصصت إذاعة (صوت اسرائيل) في بث اغانيها في الساعة السادسة من مساء كل يوم ولمدة ساعة منذ ستينيات العقد الماضي، كما اخذ راديو اسرائيل بالعبرية يبث بصورة تدريجية أغاني لأم كلثوم لجمهور عبري، لم يسمع عنها من قبل، بعد ان نُشرت مقالات عنها في صحيفة هاآرتس وغيرها. وذهب التقرير إلى أن العديد من التراجم لإنتاج أم كلثوم الغزير الى اللغة العبرية والندوات والدورات التثقيفية في الجامعات ساعد الاسرائيليين على فهم هذه الاغاني بعد ان شغفوا بالألحان. وهنا يقول السفير المتقاعد من وزارة الخارجية تسفي كباي الذي ترجم لها بعض القصائد: (إن أغنية «انت عمري» كانت الأغنية الأولى التي اخترقت الوعي الاسرائيلي بل غزت عواطفه وأصبحت «انت عمري» مرادفة لأم كلثوم وصوت مصر). ليس هذا فحسب، بل إن الكنيست اليهودي راح هو الآخر يحتضن فن أم كلثوم حيث اختصرت الموسيقى الدينية الطريق الى أغاني كوكب الشرق والأغاني المصرية الكلاسيكية بعد ان شرّعهاً الحاخام عوفديا يوسيف، الذي كان معتاداً على الاستماع الى أغانيها، منذ خدمته في مصر وهو شاب، وهذا الموقف استقطب الكثير من تلاة التوراة (حزانيم) الذين أنشدوا الترانيم الدينية على إيقاع اغاني أم كلثوم. بعد هذا وذاك يأتي رئيس بلدية القدس، نير بركات قبل أشهر ليعلن افتتاح شارع «أم كلثوم» في بيت حنينا في الجزء الشرقي من القدسالشرقية. خلاصة القول، سيظل إبداع سيد درويش وكتيبة الشعراء والمفكرين عنوانا ممتدا لثورة 1919، كما أن إطلالة أم كلثوم ورفاقها ستظل تضىء المنطقة رغم إخفاقات ثورة 52 ورحيل حكوماتها.. وتبقى ثورة 25 يناير في مفترق طرق: إما إبداعا وإلهاما في أي حقل من حقول المعرفة والعلم أو إحباط وفوضى مستمرة، فهل حقا أن الجماعة تمتلك رؤية مبتكرة لمشكلاتنا المركبة أم أنه ستتركنا فريسة لمصاصي الدماء ودعاة التكفير؟! [email protected]