عرضنا في المقال السابق القسم الأول من البحث التحليلي العميق الذي أصدرته مؤسسة كارنيجي الأمريكية في 24 ديسمبر لكاتبها ناثان براون، تتبع فيه خطوات العملية السياسية التي جرت في المرحلة الانتقالية لثورة 25 يناير المجيدة والأخطاء الفادحة التي وقعت فيها جميع الأطراف المشتركة في العملية مما أدى الى المأزق الحالي في مصر، وانتهى هذا الجزء الى أن الصيغة المقترحة لاصدار دستور جديد كانت في صالح التيار الديني، ولم يكن ممكنا أن تؤدي إلى دستور متوافق عليه بين جميع الأطراف إلا في حالة التوافق على الأهداف، ولم يكن الأمر كذلك ولذا حاولت القوى غير الدينية معالجة الوضع بما عرف بوضع مبادئ فوق دستورية تلزم الجميع، وهو ما وافقها عليه المجلس العسكري الحاكم ولكن ذلك لم يتم. وفي هذا الجزء يستطرد براون تحليل بعنوان فرعي هو: «خطايا التطبيق». يقول براون بينما تعثرت المرحلة الانتقالية في مصر لم يكن هناك ما تقدمه القوى السياسية لبعضها سوي الحقد المتبادل والجوع نحو القوة السياسية ولم تكن الثغرات التي منحت خلال مارس مقصورة على مناطق البناء السياسي للمستقبل، بل امتدت إلى أسلوب الحكم في الفترة الانتقالية، فتم إلغاء بعض قواعد الرقابة البرلمانية في دستور 1971، وإن كانت قواعد نائمة لم تطبق، ألغيت هذه القواعد في إعلان مارس 2011 الدستوري، ووجد أعضاء البرلمان الذي انتخبوا في يناير 2012 أنهم لم يستطيعوا إدارة العملية السياسية التي أمامهم فلم تكن لهم سلطة على تشكيل الوزارة أو وضع سياسات، وحتى عندما كانوا يعملون لإصدار تشريع عادي كان هناك دائما احتمال فيتو من العسكريين لإيقافه. وسرعان ما أدركوا أنه بينما كانوا مسئولين عن أداء الحكومة السيئ لم تكن لهم سلطة تعديل هذا الاداء، ورداً على ذلك زعم الإخوان المسلمون أن المجلس العسكري الحاكم هددهم بأن النصر الانتخابي الذي حصل عليه حزبهم كان يمكن إلغاؤه بحكم قضائي، كما زعم الإخوان أن التهديدات استخدمت لأقصى مدى في الانتخابات الرئاسية، وأنه لذلك السبب تراجع الإخوان عن قرارهم السابق بعدم تقديم مرشح إخواني للرئاسة، وبينما تدهور الجو السياسي وجد الإخوان المسلمون أنفسهم غير مستعدين لطمأنة القوى غير الإسلامية بأن الإخوان لا ينوون احتكار الحياة السياسية، ودفنوا شعارهم السابق «مشاركة لا سيطرة»، وكان تصعيد الهجمات الإعلامية من كل الأطراف ضد بعضها البعض ضرراً يعادل أو يزيد على ضرر الخطوات التكتيكية التي اتخذت على الساحة السياسية، كان من الصعب جداً التمييز بين ما هو حقيقة وما هو شائعة في الهجمات الإعلامية المتبادلة. كان البرلمان المنزوع السلطات موضع نقد بسبب عجزه عن عمل أي شىء وكان موضع تهكم غير الاسلاميين بأن الأغلبية لا يعنيها سوى خفض سن الزواج كانت هذه الاتهامات غير صحيحة، فقد كانت من الاعمال الأولى للبرلمان تحرير عمل المنظمات الأهلية بالقانون الذي أصدره لذلك، وعندما تم حل البرلمان بحكم قضائي في يونيو 2012 لم يحزن عليه سوى الاسلاميين. استخدم الاسلاميون في البرلمان قبل حله أغلبيتهم لتشكيل جمعية دستورية مرتين، فقد حلت المحكمة الجمعية الدستورية الأولى، وفي كل من تشكيل الجمعية الدستورية وعملها قدم الاسلاميون تنازلات لم تكن كافية لاقناع القوى المعارضة لهم بالمشاركة في العملية، وتقضي الامانة أن نقول أنه لو كانت هناك كتلة غير اسلامية قوية داخل الجمعية لاستطاعت الحصول على تنازلات قوية من الأغلبية الاسلامية التي كانت في شدة العجلة لاصدار دستور جديد، ولكن لايهم في هذه النقطة توجيه اللوم لغير الاسلاميين علي تفرق قواهم، فلولا هذا التفرق لما كانت الثورة بهذه القوة، كانت حقيقة أن الكثير من القوي زعمت أنها الممثل الحقيقي لثورة رغم أنها لم تكن خاضعة للتشكيلات السياسية القائمة هي التي جعلت قوة الثورة عارمة في اوائل سنة 2011 عندما اسقطت مبارك، وبذلك اقتربت مصر من نهاية فترة الانتقال المرتبكة بوجود عديد من اللاعبين يستخدم كل منهم ما يستطيعه من أسلحة. تعلم الاسلاميون أن الانتخابات وحكم الأغلبية يصبان في صالحهم، وتعلمت مؤسسات حكومية مهمة أن أفضل تكتيك هو التهديد والمساومة لمنع الإخوان من اقتناص سلطة هذه المؤسسات، وتعلمت المعارضة أن أفضل خياراتها هو الشكوى والنقد والمقاطعة والتظاهر. وتحت عنوان فرعي آخر هو «الخطيئة القاتلة؟ انقلاب مرسي» يستطرد براون قائلا: إن هذه الترتيبات السياسية الضعيفة هي التي مكنت مرسي المنتمي للإخوان المسلمين والذي انتخب رئيساً في يونيو 2012، مكنته من الهجوم الخاطف في نوفمبر وديسمبر على السلطة بأمل جعلها أكثر استقرارا، وكان كل قرار من قراراته في تلك الفترة يبدو منطقيا، وكان بعض هذه القرارات ليس من صنعه هو، فمثلاً هؤلاء الذين يدينون الإخوان على العجلة في كتابة مسودة الدستور والعجلة في عرضه للاستفتاء ينسون أن أجندة العملية الانتقالية وضعت في مارس سنة 2011 وتم الاستفتاء بالموافقة عليها من المصريين في ذلك الوقت. ولكن عند تقييم العملية برمتها نجد أن تصرف مرسي يبلغ مرتبة تأكيد سلطته بطريقة صاروخية وجرأة في الهجوم على الكثير من القواعد غير المكتوبة والقليل من القواعد المكتوبة في السياسة المصرية، فقد جعل من نفسه ليس مجرد رئيس للسلطة التنفيذية، ولكن كذلك منح نفسه سلطة المشرع الأوحد غير الخاضع لرقابة القضاء، ومهما كانت الطبيعة الوقتية لتصرفاته فإن مصر لن تفيق منها بسهولة. ربما كانت خطوات مرسي أكثر قبولاً لو كان هناك توافق سياسي واسع بشأنها، ولكن مرسي لم يكلف نفسه عناء مجرد التشاور بشأنها، وخلط بين وضعه كرئيس ووضعه كمنتم لحركة سياسية معارضة وبصفته الاولى رغم أنه يفعل ما هو في صالح مصر كلها، ولكن بصفته الثانية فقد مكن حلفاءه من الإخوان أن يجعلوا من أنفسهم حرسا رئاسياً قويا يستطيع تفريق المظاهرات واحتجاز وتعذيب من اعتقدوا أنهم ارتكبوا جريمة الاعتصام حول القصر الجمهوري. والشىء الذي يجعل انقلاب مرسي في نوفمبر 2012 غاية في الغرابة أنه لم يكن ضرورياً حتى بمعايير العنف السياسي في السياسة المصرية، فقد افترض أن المحاكم والمعارضة تحاول تغيير مسار فترة الانتقال في مصر، فهم في نظره لم يحاولوا فقط حل الجمعية الدستورية، ولكنهم كانوا يحاولون إبطال خطوته الدستورية الاولى التي ألغت الدور السياسي للمؤسسة العسكرية، ولكن إلغاء الجمعية الدستورية كان سيطلق يد مرسي في تعيين جمعية جديدة وابطال خطوة مرسي بالغاء الدور السياسي للعسكر كان سيكون كارثة لا تقتصر على مرسي، ولهذا السبب بالذات فمن المستبعد جداً أن المعارضة لمرسي كانت تحاول ذلك، حتى لو حاولت فلم تكن ستنجح. ولو لم يقم مرسي بهذه الخطوات الدرامية لتأكيد سلطته فربما كان هو والإخوان المسلمون سيحصلون علي الدستور الذي يريدون ومعه معارضة غير فعالة بدلاً من عاصفة الاحتجاج الضخمة التي واجهته. ورغم ذلك تصرف مرسي على النحو الذي فعل، وكان رد الفعل لتصرفه مذهلاً فالمعارضة تحاول وبدرجة من النجاح احياء موجة الاحتجاج الجماعية التي اندلعت في يناير 2011 وقد اصطدم وكلاء النيابة الغاضبون مع قوات الأمن أمام مبنى محكمة النقض، وثارت مؤسسات القضاء لدرجة الاضراب ورفض الاشراف على الانتخابات، وهو شىء لم تفعله في عهد مبارك، وأضرب جزء ضخم من الصحافة لمدة يوم احتجاجاً، وقد أعلن العسكريون حيادهم في هذا الصراع مما دفع المراقبين للشك في حقيقة نواياهم، ووصل الاضطراب الى مؤسسة الرئاسة نفسها في صورة فرض ضرائب عند الفجر والغاؤها قبل الغروب، أصبح الاستقطاب كاملاً، وأثر الخلاف في المعلقين وأصبحت المناقشات السياسية ثورات غضب واتهامات متبادلة بالبعد عن الموضوعية والاخلاق. وبذلك فاقرار الدستور يحل الامور على الورق فقط، فقواعد اللعبة السياسية في مصر ترسخت في قالب يشاهد انقسام جهاز الدولة وتخلخله، وتحفز المعارضة وغضبها العارم، وحتى الائتلاف الحاكم يشوبه الاضطراب ويبدي كل اللاعبين السياسيين أن مهاجمتهم الشفوية لا حد لها، وتهدد بالتحول الى فعل ونقف عند هذه الفقرة لنعرض في المقال الثالث والاخير ما يراه الكاتب من احتمالات انقاذ الموقف. --- نائب رئيس حزب الوفد