إلى عهد قريب، لم يكن فى وسعى مشاهدة أى من الأفلام المرشحة لجائزة أوسكار أفضل فيلم، إلا عندما تتاح له فرصة العرض العام، فى ربوع مصرنا. وهذا يعنى الانتظار طويلاً، أحياناً لأشهر، وأحياناً أخرى لسنوات، ينقطع بعدها الأمل نهائياً فى مشاهدة الفيلم غير أنه الآن، وبفضل ثورتى المعلومات والاتصالات أصبحت مشاهدته أمراً ممكناً، بعد بضعة أيام، أو ربمابضع ساعات من إعلان الترشيحات لجوائز الأوسكار. ومن هنا، نجاحى، على نحو غير مسبوق، فى مشاهدة جميع الأفلام التى أذيع خبر ترشيحها، قبل بضعة أيام، لجائزة أوسكار أفضل فيلم، وعددها تسعة، من بينها فيلم «لينكولن» لصاحبه «ستيفن سبيلبرج»، ذلك المخرج الذى سبق له الفوز، هو وفيلمه «قائمة شيندلر»، بجائزتى أوسكار أفضل فيلم ومخرج، ثم الفوز مرة أخرى بجائزة أوسكار أفضل مخرج عن فيلمه «إنقاذ النفر رايان». ويدور موضوع فيلمه الأخير «لينكولن» حول مسيرة الرئيس الأمريكى السادس عشر، فى تاريخ الولاياتالمتحدة، التى لم يكن لها من العمر، وقت فوزه بالرئاسة 1860 سوى أربعة وثمانين عاماً. ولم يكن لدستورها، وقتها، من العمر، هو الآخر، سوى اثنين وسبعين عاماً ولقد استمد المسرحى، وكاتب السيناريو «تونى كوشنر» مادة الفيلم من مؤلف ضخم للمؤرخة الأمريكية «درويش كيمز جودوين»، أسمته «فريق من المتنافسين عبقرية آب لينكولن السياسية». وفى البدء كان السيناريو، كما قدمه «كوشنر» إلى سبيلبرج، منطوياً على خمسمائة وخمسين صفحة، تناولوا فيها «كوشنر» بالتفصيل مسيرة رئيس ملأ اسمه الدنيا، وشغل الناس، زهاء مائة وخمسين عاماً، بدءاً من توليه رئاسة الولاياتالمتحدة، وهى منقسمة، بين جنوب مدافع عن نظام العبيد، وشمال معادله، منادياً بتطهير البلاد، من وصمة عاره. ولكن سبيلبرج بحسه السينمائى المرهف اكتفى بالخمسين صفحة الأخيرة من ذلك السيناريو، حاصراً بهذا الاختصار سيرة «لينكولن» فى الفيلم وفقاً لصورته النهائية، فى أشهرها الأخيرة، السابقة على اغتياله فى مسرح «فورد» بواشنطن العاصمة، وفى الرابع عشر من إبريل لسنة 1865 برصاصات انطلقت من غدارة قاتل، لم يغفر ل«لينكولن» نجاحه فى تحرير العالم الجديد، من نظام العبيد. وهكذا، جاء الفيلم خالياً تماماً من أيام فقر طفولة «لينكولن» فى ولاية كنتاكى، ولا من أيام صعوده سياسياً، ولا من أيام قيادته الحرب الأهلية بين الجنوب والشمال، فالفيلم، وإن عرض فى بعض المشاهد الخاطفة، لمشاكله مع زوجته، وأكبر أبنائه، إلا أنه مكرس أصلاً للأشهر الأولى من رئاسته لفترة ثانية، وفى الوقت نفسه الأشهر الأخيرة من حياته. فالخط الرئيسى الذى اختاره «سبيلبرج» لفيلمه عن سيرة «لينكولن» هو المعركة الضارية التى قادها الرئيس الأمريكى، من أجل الحصول على موافقة مجلس النواب على التعديل الثالث عشر للدستور الأمريكى، وبموجبها تسقط الشرعية عن نظام العبيد. فذلك المجلس، وإن كان يمتلك فيه الأغلبية الحزب الجمهورى الذى يرأسه «لينكولن»، إلا أنها كانت دون أغلبية الثلثين التى تتطلبها أحكام الدستور، حتى يمكن تمرير ذلك التعديل. ومن هنا، ضرورة كسب على الأقل، أصوات عشرين نائباً من نواب الحزب الديمقراطى، المعارض بضراوة للتعديل، عاملاً بكل قواه، من أجل التصويت ضده، حتى لا تتم الموافقة عليه قبل انتهاء الحرب الأهلية. ومما زاد الأمور تعقيداً أن حزب «لينكولن» كانت تمزقه الخلافات فى شأن التعديل، فالبعض كان يقاوم بشراسة أى حل وسط مع المعارضة، والبعض الآخر، كان يرى أسوة بالمعارضة، تأجيل التصويت على التعديل، إلى ما بعد انتهاء حرب أهلية، حصدت أرواح ستمائة ألف شاب أمريكى، على امتداد أربع سنوات عجاف. أما كيف أدار«لينكولن» بنجاح المعركة السياسية، على نحو أدى إلى صدور التعديل الذى حرَّم العبودية، بطول وعرض البلاد، كما أدار الحرب الأهلية، على نحو أدى إلى انتصار الشمال، فذلك ما يحكيه فيلم سياسى بامتياز، يستحق بجدارة هو ومخرجه وبطله «دانى داى لويس» المتقمص ببراعة شخصية محرر العبيد، الفوز بجوائز أوسكار.