كان اللقاء الأول قبل سنوات ثلاث في ندوة لمناقشة كتاب حول «هجرة الشوام وتأثيرهم في مصر»، البطريرك غريغوريوس لحام، بطريرك إنطاكية وسائر المشرق، كان ثالث ثلاثة في منصة ضمت إلي جواره وقتئذ د. مصطفي الفقي والسفير اللبناني خالد زيادة. إبان تلك المرحلة لم يكن الربيع العربي قد هبت رياحه بعد، وتأخرت رغبة الحوار معه لمدة عامين مثلما تأخرت نتائج الثورات العربية في مقدمتها ثورة مصر، و«البطريرك» لا يزال محتفظاً لمصر في ذاكرته بالتعايش المجتمعي منزوع السجالات الطائفية. تجدد اللقاء مع احتفال الكنيسة الأرثوذكسية بعيد الميلاد، باكورة الاحتفالات الرسمية للبابا تواضروس الثاني، ولا يزال مطلب الحوار قائماً في ظل متغيرات المشهد العربي تحديداً في «سوريا» مسقط رأس البطريرك، وصعود التيارات الإسلامية إلي السلطة. ثمة مخاوف تحيط ب «مسيحيي الشرق» ومسلميه في معرض تعالي الأصوات المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية في بلدان الربيع – وفقاً لتصريحات البطريرك - ويختلف الوضع قليلاً في سوريا التي لم يسقط نظامها بعد، وينزح منها المسيحيون إلي دول الجوار. عن محاور الحوار سأل البطريرك «غريغوريوس» عقب مصافحته، مبدياً مرونة كافية بعد عرضها علي مسامعه.. ومضت الإجابات محفوفة بشيء من التحفظ علي بعض النقاط، بينما جاء مجملها محملاً بالصراحة الممهورة بالقلق علي مستقبل العالم العربي. قرابة الساعتين لم تنقطع تفسيرات البطريرك، حول أوضاع الأقباط في مصر، وتصوراته حول مطلب تطبيق الشريعة الإسلامية، وموقف الكنائس من الحوار الوطني، حتي إذا مر الرجل علي الوضع في سوريا طوقت عيناه مسحة من الحزن علي الوطن الأم الذي أصبح بعيد الفكرة، نافياً تسليح المسيحيين السوريين، لافتاً إلي أن الزج بهم وسيلة لإشعال الموقف. حول جدوي ثورات الربيع العربي، ومخاوف المسيحيين، وتقييمه للتيارات الإسلامية، وإمكانية التعايش الإسلامي – المسيحي، إزاء السعي باتجاه تطبيق الشريعة الإسلامية، ومستقبل الوضع السوري.. كان ل «الوفد» هذا الحوار: دعنا نبدأ من القاهرة.. وأنت متابع للسجال السياسي الحالي حول الدستور المصري كيف تري مخاوف المسيحيين من فكرة «الشريعة» وإلي أي مدي يمكن للصراع الدائر أن ينتهي؟ - القضية ليست قضية قوانين، التعايش بين المسيحيين والمسلمين في مصر يمتد لأكثر من 1435 عاماً، وحسبما يكون الحاكم تصير هناك مخاوف، والأزمة الآن في مصر تتلخص في أنها «أزمة ثقة»، ليست بين المسلمين والمسيحيين فحسب وإنما بين المسلمين والمسلمين باختلاف توجهاتهم، ولا شيء يخيف من الشريعة الإسلامية إذا كانت ستطبق بمفهومها الأساسي، كما جاء به القرآن الكريم، وأنا اتساءل لماذا لا يتم الانتهاء أولاً من تلبية مطالب المواطنين الأساسية حتي يتسني لهم قبول الفكرة؟.. اتصور أن الوضع تحول إلي متاجرة باسم الشريعة، حتي تحول الصراع إلي إسلامي – إسلامي وهو قطعاً أخطر بكثير من الصراع الإسلامي – المسيحي. إذن ماذا يعني توصيفك ل «المتاجرة» بالشريعة ومن هم المتاجرون تحديداً؟ - ربما تكون المتاجرة من فصائل الإسلام السياسي، واستغلال للطبيعة الدينية، لكن الواضح الآن أن التكفير سمة غالبة، وبعد الربيع العربي لم يعد المسيحيون وحدهم كفاراً، وإنما أصبح ما يقرب من ثلاثة أرباع العالم العربي كفاراً. هل تعني بهذه الرؤية أن مخاوف المسيحيين في العالم العربي تنبعث من طرح «الشريعة» مصحوباً بلهجة التكفير للآخر؟ - دعني أقول لك إن المسيحيين في مصر والعالم العربي صارت مهمتهم الآن العمل علي لم شمل المسلمين في بلادهم، وأنا أدعوهم إلي العمل المشترك من أجل البناء لقطع الطريق علي السياسات الأجنبية التي تتلاعب بالمنطقة العربية. أي سياسات هذه التي تتلاعب بالمنطقة؟.. وإلي أي شيء تهدف؟ - السياسات واضحة، ونحن لا ندري ماذا تريد بالضبط من العالم العربي، لكن إذا أردت قرائن توضح فانظر إلي ليبيا ومصر، والاقتصاد الأوروبي المتزعزع، ربما يتبين أن الهدف هو فتح أسواق في الدول العربية والاستفادة من الحالة الحالية، وأعتقد أن أوروبا تريد ضرب الإسلام بالإسلام عن طريق تصعيد التيارات المختلفة من فصائل الإسلام السياسي، مثلما يحدث في فسلطين بين الفصائل السياسية «فتح وحماس» وتحول الوضع إلي صراع فلسطيني - فلسطيني وليس صراعاً إسرائيلياً - عربياً. تبحث الكنائس المصرية الآن تعليق مشاركتها في الحوار الوطني بسبب قلقها إزاء عدم تنفيذ تعهد الرئيس بتعديل الدستور.. هل تري أن الأوضاع بلغت ذورة «تعقيدها» بين الأغلبية الإسلامية وباقي التيارات؟ - لن نتكلم بصيغة الأغلبية والأقلية لأننا جميعاً نريد التوحد من أجل نباء مصر، ومواجهة القضايا الرئيسية والتحديات، وأنا لا أرجح الانسحاب لأن المسيحي لابد أن يظل محاوراً. هل يتركز القلق القبطي من الدستور علي المادة 219 الخاصة بمرجعية الأزهر الشريف لتفسير الشريعة الإسلامية وفقاً لمذهب أهل السنة والجماعة؟ - هذه المادة هي «العقدة الأساسية»، والشريعة كما نعرفها جاءت لأجل الإنسان فلماذا التمسك بها وكأنها الأساس والأولوية الآن، نريد من العلماء المسلمين أن يشرحوا لنا الشريعة بتطوراتها التاريخية، حتي يطمئن المسلمون الذي يكفر بعضهم بعضاً، ويطمئن المسيحيون، لأن الفضائيات الدينية تؤثر سلباً علي مفهوم الشريعة. لكن القلق المسيحي ربما يتبدد – حسبما يري الفريق الآخر – عند المادة التي تكفل للأقباط حق الاحتكام لشريعتهم.. أليس كذلك؟ - هذا الأمر في حاجة إلي توضيح.. ولابد من عودة الثقة والاهتمام بالقضايا الاجتماعية، مهما كان تحجر بعض الفئات. كان متوقعاً انتهاء السجال الطائفي في مصر بعد ثورة يناير، كيف تري تصاعده المثير للجدل؟ - نعم الطائفية تتصاعد في مصر والعالم العربي، ونحن جميعاً نتراجع أمامها، وأعتقد أن هذا نجاح للمخطط الغربي القائم علي مبدأ «فرق تسد»، وتتصاعد الطائفية بسبب انشغال الحكومات الحالية عن قضايا الفقر والتعليم التي حل محلها الفوضي والعنف، وليس خافياً أن الفقر هو أساس الثورات. ماذا تعني بأن الفقر هو الدافع للثورة.. وهل يدعم تصورك قيام «ثورة جياع» في مصر إذا استمر الوضع علي ما هو عليه؟ - أعني أن الفقر يؤدي إلي العنف واللامبالاة.. وأتوقع ثورة جياع قريبة في مصر إذا استمر الوضع علي ما هو عليه، لأن الناس تسأل الآن: «ماذا قدمت لنا الثورة؟»، دون وجود إجابات واضحة، ومن الواضح الآن أن هناك «تحويراً» لمجري الحياة المصرية. تقصد أن هناك محاولات تغيير ل «هوية» مصر؟ - أقصد أن الأجواء ليست مهيأة لتطوير القضايا الرئيسية، ونحن كمسيحيين ومسلمين علينا أن نعمل علي الحفاظ علي التراث المصري لإعادة الثقة والتواصل بين كافة الطوائف، وإذا نجحت الدولة في المحافظة علي التراث والهوية المصرية ستقدم نموذجاً لدول الربيع العربي، وأخشي أن نفقد الأمل في مصر. تبدو مخاوفك من تغيير الهوية.. إسقاطاً سياسياً علي ظهور التيار السلفي علي المشهد المصري الحالي.. هل أبديكم قلقاً من صعود هذا التيار؟ - هذه تيارات لا نعيرها اهتماماً، والمسلمون في مصر في غالبيتهم لا ينتمون لهذا الفصيل لأنه ليس مقنعاً، وأدعو المسلمين في مصر للحكم علي توجه التيار السلفي وليس المسيحيين لأنهم أدري بالإسلام الحقيقي. الآن يثور الجدل حول وجود «كوتة» تضمن للأقباط والمسيحيين بشكل عام تمثيلاً مناسباً في مجلس النواب المقبل.. هل تتفق مع مطلب «الكوتة»؟ - لن أجيب عن هذا السؤال.. لكن ما أعرفه أن البلاد العربية بها «كوتة» عرف، وليس «كوتة» نظام، تضمن وجود عدد من المسيحيين في مجلس النواب، وأعتقد أن التركيز علي المواطنة أفضل من الكوتة، وأدعو أن تتربي الأجيال القادمة علي المواطنة. غداً يحتفل المصريون بالذكري الثانية للثورة.. هل تتوقع تكرار الأحداث التي أدت إلي إسقاط النظام السابق استناداً إلي الشعور العام بأن الوضع لم يتغير كثيراً ما بين السابق والحالي؟ - هناك تخوفات في الشارع المصري من انفجار الأوضاع، وأتمني أن تظل المسيرات في إطار التعبير عن الرأي، وعلي الدولة أن تتعامل مع الشعب بمنطق الثورة، لأنها أصبحت «موضة» الشباب الآن، والمسئولين عليهم أن ينزلوا للشارع. هل تري أن مصر أصبحت الآن دولة «المرشد».. وأن الرئيس صار مجرد شخص يتلقي أوامر لتنفيذها؟ - لا اقترب كثيراً من الرؤساء، وما أسمعه أن المرشد أصبح الحكم والموجه، ولا يجوز أن يصبح أن المرشد حاكماً وموجهاً، المرشد عليه التواصل مع المجتمع، وأي حاكم في التاريخ يصغي لشخص واحد سواء أكان هذا الشخص مرشداً أو مطراناً، فإنه سيسقط هو ونظامه. ذكرت في معرض حديثك عن الأوضاع السورية أن كلا الطرفين «بشار - الثوار» لا يمتلكان رؤية للخروج من الأزمة، إذن ما المخرج من وجهة نظرك من الأزمة السورية الحالية؟ - في سوريا ليس هناك غالب أو مغلوب، والقضية ليست «سوريا» التي تحول فيها الصراع إلي «سني – شيعي» لأنها بلد متطور يتساءل فيه المواطنون ماذا سيقدم لنا النظام القادم بعد نظام الأسد.. ومن هو هذا القادم؟.. والوضع الآن «حرب شوارع»، والحل في المصالحة.. وأنا طرحت هذه الرؤية وأشاد بها الجميع، لكن للأسف ليس هناك اتفاق حول المصالحة وهنا رغبة من الثوار للزج بالمسيحيين في الصراع لتعقيد الأمور. وماذا عن حقيقة عروض تسليح المسيحيين السوريين ضد الثوار؟ - كانت هناك محاولات لتسليح المسيحيين وأنا أصدرت رسالة في هذا الشأن وقلت فيها إننا لم نطلب التسليح من أحد، لأنني أريد للمسيحيين أن يكونوا صانعي سلام. هل يقود الإخوان المسلمين الاحتجاجات في سوريا.. وماذا عن إرهاصات التدخل الأجنبي؟ - الإخوان المسلمون جزء من التصعيد، وأخشي أن يتم الحديث عن الإخوان في الفترة القادمة باعتبارهم «الإسلام» ذاته لأن هذا عار علي الإسلام، ونصلي من أجل عدم التدخل الأجنبي في سوريا مثلما حدث في ليبيا ونطالب المجتمع الدولي بالتدخل لإنهاء الأزمة. كيف تري مبادرات الحل التي تشترط رحيل بشار الأسد كحل للأزمة السورية؟ - لا يجب حصر مشكلة سوريا في رحيل «بشار الأسد» فقط، وكل المبادرات قابلة للطرح لأن حصرها في نقطة واحدة يفقدها معناها. اقترحت إنشاء ما يسمي ب «الواحة الإسلامية – المسيحية» إلي أي مدي آل هذا المقترح وكيف تأتي خطوات تفعيله إذا كنت تراه موازياً للجامعة العربية؟ - نعم اقترحت تأسيس واحة إسلامية - مسيحية في ظل هذه الظروف الصعبة التي تحيط بالعالم العربي إبان قمة إسلامية - مسيحية سندعو لها قريباً في لبنان، هذه الهيئة ذات طابع روحاني لإرساء قيم إيمانية تضمن حرية المعتقد، وحرية الفن وتعطي شرعية ل «ميثاق جديد لحقوق الإنسان العربي»، وندعو من خلالها الحكام العرب إلي تجميع شعارات ميادين الحرية وتفعيلها في ميثاق ل «حق الإنسان العربي». أخيراً.. ماذا عن طرح «مجلس الكنائس المصرية» الذي تسعي القيادات الكنسية لتفعيله الآن؟ - اطلعت علي هذا المشروع، وأتمني أن يعمم هذا النموذج في كافة البلدان العربية، وسيضمن هذا المجلس للكنيسة صوتاً وطنياً لطمأنة المسيحيين، وأعتقد أن هذا المجلس جاء في الوقت المناسب، وهذا المجلس ليس تكتلاً لمواجهة الإسلاميين، ولا نريد أن ينظر للمسيحيين إذا توحدوا بعين الخطر علي المسلمين.