حسنا فعل البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية بإعلان رفضه لدعوات تخصيص كوتة للأقباط في البرلمان المقبل باعتبار أنها «مسألة من شأنها تقسيم الوطن ولا حاجة لنا أن نقوم بذلك الشىء الآن».. فمن الغريب أن تصدر عن البعض دعوات لهذه الكوتة في الوقت الذي من المفترض فيه، بعد ثورة يناير، أننا ننطلق نحو تعزيز مفهوم المواطنة بما يعنيه من تنحية البعد الديني أو الطائفي في الأساس الذي يجرى عليه التعامل مع المواطن المصري أيا كانت ديانته. الأكثر غرابة هو تشدد بعض الأصوات الداعية إلى الكوتة إلى حد التشكيك في الكثير من دعائم الوحدة الوطنية التي عاش علي أساسها المصريون – مسلمين وأقباطاً – على مدى عقود، وعلى رأسها ثورة 1919 التي مثلت أحد أكثر مظاهر التلاحم الوطني في بدايات القرن الفائت، في رؤية تعبر عن قدر من العدمية وانتقاص الذات وتشويه التاريخ قل أن نصادف مثله. وإذا كان هؤلاء لا يقرأون التاريخ نذكرهم بالقطب الوفدي وفيق أندراوس الذي لقيت ابنتاه مصرعهما مؤخرا في حادث داخل القصر الذي يقيمان فيه حيث كان من قادة ثورة 1919 وظل نائبا للأقصر على مدار ثلاث دورات برلمانية بدعم ومناصرة عائلات الأقصر المسلمة قبل المسيحية ومن شيوخها قبل قساوستها. الأكثر مدعاة للريبة هو انطلاق مثل هذا البعض من ترديد مقولات عفا عليها الزمن تعبر عن قدر من التعنت في التعامل مع قضية المواطنة وتتمثل في محاولة التأكيد على استمرار النظر للأقباط كأهل ذمة وهو مفهوم لا نقول اختفى بل انقرض وأصبح في عداد التاريخ ويثير الحديث عنه باعتباره واقع قائم أو ينبغي قيامه السخرية من صاحبه أيا كان. على هذه الخلفية وفي معرض تفنيد دعوة البعض إلى تخصيص حصة ثابتة للأقباط في البرلمان والتأكيد على عدم وجود ضير في ذلك نشير إلى أن هذه الدعوة تمثل عودة بنا إلى الخلف وتعزز الصورة الذهنية التي يستمد منها أنصار هذا الفريق موقفهم في محاولة التأكيد على وجود انقسام بين أبناء الوطن الواحد يستدعي تخصيص هذه النسبة الثابتة باعتبار أن نمط التصويت الطبيعي لن يأتي بأقباط إلى مقاعد البرلمان وهي تصورات واهية ويؤكد الواقع زيفها. وفي كل الأحوال فإنه من المفترض أننا نسعى إلى خلق واقع جديد، حتى لو لم يكن هذا الوضع موجوداً، يقوم على تجاوز أي مظاهر سلبية ترتبط بطبيعة العلاقة بين المسلمين والأقباط في مرحلة ما بعد الثورة، والتي يجب – في تصورنا – أن تتجاوز معناها الضيق كثورة لإسقاط النظام، إلى كونها ثورة لإسقاط الطائفية والفساد وغير ذلك من مظاهر سلبية نرى أننا كنا نعاني منها فيما قبلها. نعلم أن هناك بعض التيارات هنا أو هناك تأبى أن تكون الأمور على صعيد العلاقة بين المسلمين والأقباط على ما يرام، ونعلم أن هناك اتجاهات متطرفة في كل جانب تقتات على التوتر وتصعيد الفتنة ، ونعلم أن التشدد قائم «بينا وفينا» ومثال ذلك انتقاد أحد الأقباط لموقف البابا بتقديم رؤية متشائمة تؤكد أن الأقباط لن يطولوا شيئا بكوتة أو بدون كوتة، غير أن ذلك لا يجب أن يثنينا بأي حال عن بدء الرحلة على الطريق الطويل نحو تعزيز مفهوم المواطنة في أكثر معانيه نقاء.. إن خطورة هذا الاتجاه هو خلق وتعزيز ما يمكن وصفه بحالة «الكسل السياسي» لدى الأقباط باعتبار أن نتيجة السباق معروفة مسبقا وبالتالي تصبح معركة مثل الانتخابات لا ناقة لهم فيها ولا جمل.. وهو ما يعزز انسحابهم من العملية الانتخابية، الأمر الذي قد يمتد إلى ساحات أخرى .. ويخلق «جيتو» يكرس فكرة انقسام أبناء الوطن، وهو الأمر الذي لمسه البابا تواضروس وحذر منه.. فهل هذا هو المطلوب؟ ثم إن في مثل هذه الدعوة محاولة لتغييب آليات العمل السياسي من تنافس حزبي واستقطاب أصوات الناخب وغير ذلك من مظاهر ديمقراطية من المفترض أننا نسعى لغرسها لدى المواطن المصري في سعينا لتأسيس نظام سياسي يقوم على أسس ديمقراطية حقيقية. غير أن هذه الدعوة للكوتة قد تجد تفسيرها في حالة التشرذم التي نعيشها بعد الثورة والتي أفرزت مناخا تمكنت من خلاله الرؤى الضيقة من التسلل واحتلال صدارة المشهد، فهى لا تنفصل، رغم طائفيتها، عن مجمل ما نحياه من دعوات فئوية أو غيرها.. وإن كانت أكثر خطورة، الأمر الذي ينبغي تجاوزه إذا كنا نريد بحق أن نبني مستقبلا صلبا على أسس متينة.