إن الله سبحانه وتعالى جعل الضحك والسرور من دلائل قدرته، وكمال عظمته، ومن عظيم رحمته بخلقه إذ خلق فيهم قوة الضحك رحمة بهم وترويحاً حيث خلق فيهم الفعل المؤدي إليه، والدال عليه، وأمكنهم من اكتسابه . والضحك والمزاح باب فسيح، ومجال واسع الجنبات، يجد الإنسان فيه الكثير من الطُّرَف والْمُلَحِ المحببة إلى النفس، حتى يصل بمشاعره وأحاسيسه إلى الرقَّة والسعادة، والفرح والهناءة . كما يجد في الجانب الآخر من المزاح والضحك ما يصل بصاحبه إلى ما لا يُحمد من سوء العاقبة، وذلك بسبب سخرية أو استهزاء، أو تهكم أو هجاء يُقْصَدُ به شخصٌ معين . بهذا بدأ الدكتور احمد البصيلي الازهرى من علماء الازهر وأضاف قائلا: والمزاح سبب في الضحك، أو أحد أسبابه الداعية إليه، وهو ضرب من الترويح عن النفس حتى يذهب عنها ما أصابها من ملل أو سآمة، وهو عون لا بأس به للمسلم في مواصلة مسيرته ومهماته الحياتية، متى كان ذلك مضبوطاً بالضوابط الشرعية التي لا تخرجه عن حَدِّه والهدف المرجو منه، حتى يُرَوِّحَ عن نفسه، وعن من يلازمهم أو يجالسهم ليذهب عنهم الملل، وتنتفي عنهم السآمة من كثرة ما ينهمكون فيه من عمل وبيع وشراء والتزامات ومسؤوليات ... الخ . إنه لا حرج على المسلم النابه في أن يأخذ من الراحة والترويح ما لا يكون حراماً، ليستعين به على أداء رسالته التي كُلِّفَ بها، والعمل على إنجاحها، وذلك بما تقتضيه الحاجة، وتتطلبه الفطرة البشرية. والمزاح: وسيلة من الوسائل التي يُقْصَدُ بها المباسطة والترويح عن النفس، بحيث لا يفضي في نهاية الأمر إلى ضرر يلحق المازح أو الممزوح معه، فإذا حَدَا المزاح بصاحبه أو بغيره إلى ضررٍ كان منهيّاً عنه شرعا. والمزاح الخالي من الكذب والاستهزاء والسخرية مزاح محمود لا بأس به لأنه يناسب الفطرة الإنسانية، وتجد فيه ما يدفع عنها السآمة والملل. وقد وردت مادة الضحك ومشتقاتها في القرآن الكريم عشر مرات في سور: التوبة، هود، المؤمنون، النمل، الزخرف، النجم، عبس، المطففين. والضحك هو عملية فسيولوجية تنشأ من داخل الإنسان، بسبب مؤثر خارجي، يظهر أثرها على ملامح الوجه فيبدو في صورة مشرقة متهللة، سواء ظهر له صوت أو لم يظهر . والضحك ظاهرة نفسية واجتماعية وفسيولوجية تختص بالإنسان دون غيره من بقية المخلوقات. والتبسم أُولى محطات من الضحك، ويكون بانفراج الشفتين، أو بدون انفراج لهما، من غير صوت مسموعٍ، وهذا هو القدر المحمود من الضحك، حيث كان ذلك التبسم جُلُّ ضَحِكِ رسول الله (، وعليه سار السلف الصالح في حياتهم. وقد ورد لفظ التبسم في القرآن الكريم في موضع واحد في سورة النمل ،والابتسامة متنفس طبيعي للإنسان فلو كتم الإنسان انفعالاته وتوتراته لحدث له ما لا يُحمد عقباه . والحق أن المزاح المحمود هو ما لا يلام عليه المازح، ولا يُقْدَحُ في هيبته، وهو الذي لا يخالطه ما يكره الله (، فلا يكون بإثم يكتسبه المازح، أو سبباً في قطيعة رحم، وهو المباح الذي تطيب به النفس وتأنس به، وكان من هدْي رسول الله ( وسلفه الصالح، حيث يذكر المازح المواقف التي كان يمزح فيها رسول الله ( مع أصحابه، وكذا السلف الصالح (، أو أن يأتي من المزاح ما يناسب الحالة التي عليها القوم شريطة أن يتجنب الكذب فيما يقول، وألا ينقص من قدر غيره، تطييباً للنفوس، وترويحاً لها حتى يتسنى للمازح تحقيق الهدف من مزاحه، وبلوغ الغاية التي ينشدها، من تقرير حكم، أو النهي عن أمر ما من الأمور غير المشروعة، أو الدعوة إلى خير ... إلخ . وإنه وبالقدر ذاته كما يُحمد المزاح في بعض صوره نظراً لِنُبْلِ الهدف منه، وعظيم النفع المترتب عليه فإنه يذم كذلك متى كان سبباً في إثارة العداوة، وظهور الشحناء والبغضاء، وإيقاد نار الفتنة بين المازح والممزوح معه، فإنه حينئذٍ يذهب الهيْبة، ويقطع الصداقات، وصلة الأرحام، ويجرئ الدنئ على المازح، ويكسب حقد القلوب عليه. والواقع أن المازح متى أفرط في مزاحه ضيع حق نفسه في احترام غيره له، وسقوط هيبته في نظره، وضيع حق الله كذلك في تركه عظائم الأمور التي كلفه الله بها، فانشغل بسفاسف الأمور عن جِدِّها، وضيع وقته سدى، وهو لا شك مسئول عنه. واوضح الدكتور احمد البصيلي الازهرى من علماء الازهر قائلا: وقد انتبه كثير من الناس في هذا العصر لِمَيْزَاتِ الفكاهة والمزاح واستخدموها في تحقيق الكثير من الفوائد الصحية، والسعادة النفسية، حيث إن دَور المزاح كبير في خفض التوترات والانفعالات الشديدة لدى الأفراد شديدي الانفعال. ومن فوائد المزاح المنضبط: مؤانسة الأصحاب، وطرد الوحشة، وتأليف القلوب، كما أنه مظهر من مظاهر الأخوة التي تقتضيها طبيعة هذا الدين الحنيف. إن مزاح المسلم مع أخيه الإنسان مظهر للين الجانب، وتطييب الخاطر، والمباسطة والملاطفة، وإدخال السرور عليه، والمسلم من وراء كل ذلك يبتغي الأجر والمثوبة من الله رب العالمين. وفي الحديث عن أبي ذرّ ( قال: قال رسول الله (:( تَبَسُّمُكَ في وجه أخيك صدقة ... (. (رواه الترمذي). فمتى كان الهدف من المزاح ما سبق، فإن فائدته جليلة، وعاقبته حميدة. ففي الحديث: ( لما قدم أبو عبيدة من البحرين بمالٍ وعلمت الأنصار بذلك، تعرضوا لرسول الله (، لما انصرف من صلاة الصبح، فلما رآهم تَبَسَّم رسول الله ( .... الحديث (. (رواه البخاري). والشاهد من الحديث أنه عليه الصلاة والسلام تبسَّم في وجوههم لما رآهم، وقرأ ما في أعينهم من الحاجة إلى المال، وحفظ عليهم حياءهم، وطمأنهم بأن خيراً سيصل إليهم. إن المزاح المحمود الذي يهدف إلى ما فيه خير من أمر الدين والدنيا مشروع، دلت عليه السنة النبوية ومن ذلك: أ ما رواه أنس بن مالك ( حيث قال: ( إن كان النبي ( ليخالطنا، حتى يقول لأخ لي صغير: يا أبا عُمَيْر، ما فَعَلَ النُّغَيْر؟ (. (رواه البخاري). والنُغَيْر: طائر أحمر المنقار، وقيل هو: فراخ العصافير. ب ما رواه أبو هريرة (: ( أن أصحاب رسول الله ( قالوا: يا رسول الله إنك تُدَاعِبُنَا، قال: إني لا أقول إلا حَقّاً (. (رواه الترمذي). ج وعن أنس بن مالك ( ( أن رجلاً اسْتَحْمَلَ رسول الله ( أي طلب منه أن يحمله على بعيره فقال رسول الله (:إني حاملك على ولد الناقة، فقال: يا رسول الله، ما أصنع بولد الناقة؟ فقال رسول الله (: وهل تَلِدُ الإِبَلَ إلا النوقُ( (رواه الترمذي). د وعن أنس ( ، أن النبي ( قال له: ( ياذا الأذنين (.(رواه الترمذي). يعني: أنه مازحه بذلك . ومنها ما روي عن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب ابن عم رسول الله (، وزوج ابنته فاطمة ( حيث قال: ( رَوِّحُوا عن القلوب، وابتغوا لها طرائف الحكمة، فإنها تَمَلُّ كما تملُّ الأبدان(. (رواه الخطيب البغدادي). ومن خلال ما سبق ذكره نخلص إلى أن المزاح مشروع، وأنه من هدْي رسول الله ( مع أهل بيته، ومع أصحابه رجالاً ونساءً، وأن المذموم منه ما يكون سبباً في القدح في دين المازح أو عِرْضه، أو أن يواظب عليه المازح حتى يفرِّط في التكليفات التي حمَّلها الله إياه. والحق أنه متى كان المزاح في شيء من أمور الدين، كان محرماً، لأن الاستهزاء بالدين يعد ناقضاً من نواقض الإسلام. فليحذر المسلم من ذلك، وليعلم أنه إذا أذنب وفعل مثل ذلك استغفر الله وتاب، فإن لم يفعل دخل النار وهو يبكي، حيث أذنب وهو يضحك . وعلى المازح ألا يتعمد الكذب في مزاحه، وأن يكون ما يقوله صدقاً: والواقع أنه قد حفل زماننا الذي نعيش فيه بكثرة المازحين الذين يذكرون الكثير من الطُّرَفِ الكاذبة بقصد إضحاك الناس بها، فهؤلاء ومَنْ سار على دربهم، جاء فيهم هذا الوعيد، وحاق بهم هذا التهديد الذي جاء في حديث رسول الله (: ( ويلٌ للذي يحدِّثُ فيكذبُ ليُضْحِكَ به القوم، ويل له، ويلٌ له (. (رواه أحمد). ولاشك أن من يقع في ذلك ويستحق هذا الوعيد، إنما هو ضعيف الإيمان، الهازل، البعيد عن الجِدِّ في أمور حياته، المصاحب لجلساء السوء الذين يزينون له ما حرم الله . وذكر الدكتور احمد البصيلي الازهرى من علماء الازهر : وعلى المازح أيضا ألا يقصد بمزاحه السخرية أو الاستهزاء بالآخرين: فالاستهزاء بالغير، والسخرية منه كبيرة من الكبائر يُعَاقَبُ عليها المستهزئ الساخر من قبل الشارع الحكيم، قال تعالى:(0 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) سورة الحجرات، الآية ( 11 ). ولقد أورد الإمام الترمذي حديثاً عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله (: ( لا تُظْهِرِ الشماتة لأخيك، فَيَرْحَمَهُ اللهُ ويبتليك (. وفي الحديث الصحيح، عن أبي هريرة ( قال: قال رسول الله (: ( المسلم أخو المسلم لا يخونه، ولا يكذبه، ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام، عِرْضه وماله ودمه، التقوى ها هنا، بِحَسْبِ امرئٍ من الشر أن يحتقر أخاه المسلم (. (رواه الترمذي). كما يشترط ألا يكون المزاح بترويع المسلم وإخافته: وترويع المسلم لأخيه منهي عنه، فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: ( حدثنا أصحاب محمدٍ ( أنهم كانوا يسيرون مع النبي ( فنام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه، ففزع، فقال رسول الله (: لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً (. (رواه أحمد وأبو داود). ومن خلال هذه النصوص يتعين على المازح أن يحذر في مزحه إخافة أخيه الإنسان أو ترويعه بفعل ما من شأنه حصول ذلك بقصد المزح معه، أو الضحك منه ..إلخ. وعلى المسلم ألا يداوم على المزاح، أو يسترسل فيه: لأن الإفراط فيه يورث كثرة الضحك، وكثرة الضحك تجعل للقلب قسوة، فتبعده عن الاعتبار والاتعاظ بما يرى حوله من آيات الله في الأنفس والآفاق، وأبعد القلوب من الله القلب القاسي. وصفوة القول؛ أن باب المزاح والضحك له من الأهمية في حياة الناس ما يدعوهم إلى الإحاطة به حتى يقفوا على جميع أبعاده الدينية والأخلاقية والاجتماعية، فيأخذون منه بقدر حاجتهم من غير إفراط ولا تفريط، فهو لهم كالملح للطعام، إنْ زَادَ أَفْسَدَهُ، وإن انْعَدَمَ زَهَدَتِ النفسُ فيهم.