عرفت الكاتب الكبير الراحل «محمد عودة» (1920-2006) فى منتصف الستينات من القرن الماضى، وكنت ما أزال طالبة فى المرحلة الثانوية حين اكتشفت الطريق الى بيته. كان بيته فى ميدان الدقى صالونا ثقافيا مما جعله مقصدا لكثيرين من طالبى العلم والمعرفة والثقافة والنصيحة، ومن يسعون إلى جلسات الأنس والمرح والفكاهة وحتى من يأملون فى العون المادى والمساندة المعنوية. لم أدخل بيت الاستاذ عودة وأخرج منه خالية الوفاض أبدا، فإما أحمل كتابا أو مقالا فى صحيفة أو مجلة نصحت بقراءته، أو عدة تذاكر لمشاهدة مسرحية جديدة. كان محمد عودة فى ذلك الوقت واحدا من ألمع الكتاب السياسيين فى مصر والعالم العربى، وكان أبرز ما يميزه فضلا عن كتاباته العميقة، وثقافته المتنوعة التى نهلت من كل صنوف المعرفة، أنه كان برغم انتمائه لثورة 23 يوليو، وإيمانه المخلص بالمشروع الوطنى والقومى لقائدها «جمال عبد الناصر»، كان يفرق بين الانتماء البصير الذى تقوده المعرفة والثقافة، وتقيم نتائجه بمدى خدمته للمصالح العامة، و بين الانتماء الأعمى الذى لا يميز بين الصواب والخطأ، وبين الحلال والحرام، وبين خدمة المصالح العامة، وبين امتطائها لتحقيق مصالح شخصية وحزبية ضيقة ومحدودة، لذلك لم يدافع عن سياسات خاطئة، وانصب اهتمامه على دراسة التاريخ، الذى منحه الاعتقاد بأن الانتماء الأول والأخير لا يكون إلا لمصالح الشعب الذى لم يكف أبدا عن الحلم له بوطن يليق بتاريخه الناصع فى بناء الحضارة الإنسانية. كان «محمد عودة» موهوبا فى التواصل مع الآخرين، ومصادقة كل أنواع البشر، فلا عجب أن تجد فى جلسات بيته نجما مشهورا أو كاتبا لامعا أو وزيرا سابقا أو سفير كوبا أو سايس الجراج الذى استوقفه ليناقشه فى أحد مقالاته المنشورة فى الصحف، وسرعان ما نمت بينهما صداقة حميمة، لهذا امتلأت حياته بمئات من أنماط، البشر من كل الأعمار والثقافات والفئات الاجتماعية والمهن، من الرجال والنساء، من كبار القوم الى متواضعى الحال، من المشهورين إلى المغمورين، من الأقوياء إلى الضعفاء، يهتم بهم جميعا دون تفرقة، ويغدق عليهم من لطفه وحنانه، وسخريته وقسوته إذا ما اقتضت الظروف ذلك. كان الأستاذ «عودة» حَكّاءً عظيماً وواحدا من ظرفاء عصره، ساعده على ذلك ثقافته المتنوعة، وإلمامه باللغات الأجنبية حيث كان يتكلم الفرنسية والانجليزية بيسر وسهولة تحدثه باللغة العربية، ولم يبخل بعلمه وثقافته على أى أحد. كان لديه فرح دائم، ومراهنة دائمة على الجيل الشاب، ولذلك كان يلتف حوله طوال الوقت أجيال مختلفة منهم مهتمة بكتابة الشعر والقصص والروايات، وبفنون الرسم والموسيقى والغناء والتمثيل، والاشتغال بالسياسة، يقرأ معهم اعمالهم، ويشجعهم، ويصوب لهم ما يخطئون فيه، ويساعد بعضهم على نشرها، ويستخدم علاقاته الطيبة مع الجميع، ليفتح لهم مجالات العمل، فيما كان يعتقد أنهم موهوبون فيه، يساعدهم ويشجعهم، ويتابع بشكل مستمر تطور أحوالهم. وفى كل مكان كان يحل فيه «محمد عودة» فى بيته أو الجريدة أو فى قاعات السينما والمسرح والفنون التشكيلية والندوات، كان يصطحب معه مجموعة من هؤلاء الشباب مزهوا بتقديمهم، والتعريف بهم فى كل تلك الأماكن، لكل هذا ولغيره كثير، فقد أدهشنى ما كتبه الصديق الشاعر «أحمد فؤاد نجم» فى الحلقة الثالثة من مذكراته التى تنشرها جريدة «الصباح». روى «نجم» واقعة عن محمد عودة تحتمل عدة تفسيرات، ليس من بينها بشكل قاطع التفسير الذى ساقه فى المذكرات. قال نجم إن «محمد عودة» زاره فى البيت الذى كان يسكنه مع الشيخ إمام فى «حوش قدم» فى حى الحسين ذات صباح فى أعقاب هزيمة يونيو 1967، وطلب منه أن يسمعه قصيدته الجديدة «التحالف» التى يقول فيها «نجم»: «يعيش اهل بلدى، وبينهم مفيش، تعارف يخلى التحالف يعيش، تعيش كل طايفة من التانية خايفة، وتنزل ستاير، بداير وشيش، لكن فى الموالد، يا شعبى يا خالد بنتلم صحبة ونهتف يعيش، يعيش أهل بلدى» والقصيدة كما هو ظاهر تسخر من النظام السياسي لمصر الناصرية، والذى كان قائما على قاعدة الحزب الواحد وصيغة تحالف قوى الشعب العامل داخل اطار الاتحاد الاشتراكى، وأن «عودة» صفق له و طلب منه إعادة القاء القصيدة أكثر من مرة، من فرط اعجابه بها، وأنه دعا نجم إلى كتابة القصيدة بخطه على ورقة كى يسعى لنشرها له، وكاد الأمر يفشل لعدم وجود ورق لولا تمسك «عودة» بمطلبه، مع إلحاح «عودة» سحب نجم لفة من الكتب تركها عنده أحد أصدقائه كانت مغطاة بورق فاخر مكتوب عيه المركز الثقافى السوفيتى ففرد هذا الورق وكتب عليه القصيدة وأعطاها لمحمد عودة، فلما اعتقل أحمد فؤاد نجم فيما بعد، فوجئ بالمحقق حسن أبوباشا فى مباحث أمن الدولة يسأله، هل هو كاتب قصيدة يعيش أهل بلدى؟ وحين امسك بالورقة التى كانت فى حوزة المحقق، تأكد أنها نفس الورقة التى أعطاها لمحمد عودة مما استنتج معه أنه تحيل عليه كى يسلم ورقة بخطه إلى أجهزة الأمن وهو ما أدى الى تعذيبه بشكل وحشى فى المعتقل! وما أعتب عليه فى رواية الصديق «أحمد فؤاد نجم» أنه قد لا يكون يعرف «محمد عودة» معرفة وثيقة تقوده إلى اتهامه هذا الاتهام المشين، ف«عودة» كان ذا كبرياء معتزا بكرامته، لا يتصور أحد أن يقدم على هذا العمل الصغير والمشين، والأرجح أن عودة قد أرسل القصيدة لمن ينشرها كما وعد، وأن الناشر هو من سلمها لأجهزة الأمن خاصة أنه قد نشأ لدى عدد من المثقفين بينهم «عودة» أن مصر مقبلة على معركة تحرير كبرى وليس من مصلحة النظام أن يصادم ظاهرة إمام - نجم التى تحظى بشعبية واسعة، هذا فضلا عن أن عودة كان يشكو دائما من سرقة أوراقه وكتبه من مكتبه فى الصحيفة التى كان يعمل بها، ويمكن أن تكون القصيدة من بينها، بالاضافة إلى أن اثنين ممن كنا شهودا على الواقعة التى رواها نجم وهما الفنانان التلقائيان محمد على ومحمد جاد قد رحلا، وربما ساعد وجودهما على قيد الحياة نجم على تذكر تفاصيل أخرى قد تدفعه إلى العدول عن استنتاجه الخطير والمثير للألم والدهشة والاستغراب، كونه يفتح معركة فى غير أوانها أو زمانها، كما يحفل بظلم بين لقامة فكرية وصحفية رفيعة المستوى مثل «محمد عودة»، تستحق أن يكرمها ويفخر بها هذا الوطن.