عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية اقترح الجنرال جورج مارشال رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي، والذي أصبح فيما بعد وزيرا للخارجية، مشروعا اقتصاديا لإعادة تعمير أوروبا، وبالفعل تم تبني المشروع وتم إنفاق 13 مليار دولار أمريكي على مدار أربع سنوات بغرض تحديث الاقتصاد الأوروبي وإزالة العوائق من أمام التجارة الحرة بين الولاياتالمتحدة والأسواق الأوروبية. وكان الأمر المدهش أنه بعد انتهاء فترة السنوات الأربع التي حددت لتطبيق المشروع، كانت المؤشرات الاقتصادية في الدول التي شهدت تطبيق المشروع تفوق مؤشراتها فيما قبل الحرب. وقد اعتبر مشروع مارشال أحد العوامل التي ساعدت على تحقيق التكامل الأوروبي فيما بعد والذي تبلور في إطار مشروع الاتحاد الأوروبي. وكانت إستراتيجية الولاياتالمتحدة من وراء اقتراح هذا المشروع تقوم على أنها وإن كانت قد صنفت بعض الأنظمة في خانة الأعداء فإنها ليس من مصلحتها أن تخسر الشعوب أيضاً، خاصة أن أجواء ما بعد الحرب قد شهدت تدميرا كاملاً للاقتصاد الأوروبي، فضلاً عن حالة من الكساد وانتشار الفقر والبطالة بشكل واسع، الأمر الذي وفر بيئة خصبة لانتشار الشيوعية بين الجماهير، وهو ما كانت تؤكده الخطط السوفيتية آنذاك. وعليه تدخلت الولاياتالمتحدة صاحبة الاقتصاد الوحيد الذي لم يتضرر بشكل مباشر بفعل الحرب، عبر هذا المشروع لإنعاش اقتصاديات أوروبا واجتذاب الجماهير الأوروبية. على الجانب الآخر من البحر، لم يشهد عالمنا العربي خبرة تدميرية مماثلة لخبرة الحروب العالمية، ولكنه رغم ذلك شهد عملية تجريف هائلة لمقدراته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، امتدت على مدار ما يزيد على الثلاثة عقود، لصالح جماعات ضيقة احتكرت السلطة والثروة. وكان من أثر عمليات التجريف هذه أن صار الحديث عن تحقيق طفرة اقتصادية فورية في أعقاب ما شهدته بعض هذه الأنظمة من ثورات ضربا من الخيال، اللهم إلا في حالة واحدة، وهي أن تشهد هذه الأنظمة مشروعات مشابهة لما شهدته أوروبا خلال مرحلة إعادة إعمارها. والسؤال المنطقي هو ما هي العوائق الموضوعية التي تحول بين كثير من الدول العربية الغنية وبين مساعدة دول الربيع العربي على تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية التي تحتاجها الأخيرة لتحقيق متطلبات ما بعد الثورة؟ والإجابة المباشرة على هذا السؤال أن الكثير من هذه الأنظمة تخشى من انتقال عدوى التحولات السياسية التي جرت في أنظمة الربيع العربي إليها، ففي هذه الأنظمة تم إحلال نخب جديدة محل النخب قديمة. أو بعبارة أخرى تم القضاء على سلطة الأمر الواقع لصالح شرعية جديدة تمثل فيها الجماهير الرقم الأساسي. وفي غمار هذه التخوفات لم يتم الالتفات إلى الفرص الإيجابية التي يمكن أن تجنيها الدول المانحة من وراء الدعم الاقتصادي لأنظمة الربيع العربي ممثلة في تحفيز الاقتصاد الإقليمي ككل وتشجيع انتقال رؤوس الأموال، والقضاء على البطالة، والتمهيد لإنشاء سوق عربية مشتركة. وعلى العكس، فإن استمرار حالة التربص التي تمارسها بعض الأنظمة إزاء الثورات العربية، وتطلعها الواضح إلى انهيار التجربة برمتها، سيمثل خسارة للجميع. وربما يفرز مع الوقت حالة من الانقسام السياسي، مشابهة لتلك التي تواجدت بين دول شرق أوروبا وغربها في أعقاب الحرب، فالأنظمة التي رفضت التعاون الاقتصادي في شرق أوروبا سرعان ما تقوقعت حول نفسها، وتحولت إلى معسكر سياسي مناوئ ومعاد للمعسكر الغربي، قبل أن يتطور الخلاف بشكل أوضح مع تشكل حلف شمال الأطلنطي في مقابل حلف وارسو. وإذا كان البعض يستبعد فكرة أن تتطور الخلافات بين أنظمة الربيع العربي والأنظمة المحافظة إلى حد تشكيل تحالفات متقابلة، فإن أبسط ما يمكن أن تؤدي إليه هذه الخلافات أن تولد أحقادا شعبية تعوق تطور المنطقة ناحية التكامل والرقي. إن على الأنظمة المحافظة أن تدرك أن الهوى الشعبي الآن مع الثورات، وأنها بإصرارها على عرقلة تجربة الربيع العربي ومعاقبة الشعوب التي تعاطت معه إيجابيا إنما تخسر من دعم الجماهير التي تشهد الآن وربما أكثر من أي وقت مضي في السابق نوعا من التلاحم والتجانس العابر للحدود. وأخيرا فإن مما قد يدفع الأنظمة العربية المتربصة بالربيع العربي إلى التخلي عن ترددها أن كثير من الدول الغربية حريصة إذا ما استقرت الأوضاع السياسية في دول الربيع العربي أن تقوم بهذه الخطوة وذلك عبر إدماجها بالاقتصاد العالمي، وربطها بقواعد السوق الليبرالية، وتبدو مؤشرات ذلك في مسارعة صندوق النقد الدولي إلى إبداء رغبته في مساعدة الاقتصاد المصري عبر قرض ضخم من غير المحتمل أن يتم التراجع عنه كما يروج البعض، وفي محاولة بعض الجهات الأوروبية مثل صندوق مارشال الألماني تقديم المساعدة الاقتصادية إلى تونس لدعم تجربة التحول السياسي بها. إن الأيام القليلة القادمة (الحادي والعشرين والثاني والعشرين من شهر يناير الجاري) سوف تشهد انعقاد القمة الاقتصادية العربية في الرياض، وسوف يمثل هذا فرصة جيدة للحديث عن موضوع دعم اقتصاديات أنظمة الربيع العربي، وإذا كان نائب الأمين العام للجامعة العربية قد اعترض على تسمية هذا البند بمشروع مارشال العربي، معللاً ذلك بأنه لا يحب مسمى مشروع مارشال لأن السياق السياسي والحضاري مختلف، فإن المهم بحق أن تقر القمة مشاريع حقيقية تربط بين الدول العربية ربطا عمليا وتؤهلها اقتصاديا للقيام بمهام ما بعد الثورات. خاصة أنها إذا فشلت في أداء هذه المهمة فلن ترحمها الشعوب العربية المتطلعة إلى أن يكون لها وللوطن العربي الذي يمثلها المكان الذي يستحقه إقليميا وعالميا. نقلا عن صحيفة الشرق القطرية