لولا حال إريتريا السيئ لما استمر شتاتنا لعقود الكتابة تمسح على قلة حيلتى وتحقننى بما يجعلنى أصمد بدأت البحث عن هويتى بين وطنين..والآن أجدنى متصالحاً مع ملامحي لا وصول.. فالإنسان يدور حول نفسه ظاناً أنه يمضى قدماً فى العام الجديد.. أحجب أمنيتى للعالم لعلىّ أسهم فى تخفيف اضطرابه ولو قليلاً «اذهبوا إلى ملك لا يُظلم عنده أحد»، هكذا طبطب رسول كريم على جراح بضعة رجال ونساء، آمنوا به وبرسالته منذ سمعوه لأول مرة، يشهدُ بإله واحد؛ يومها أمرَ النبى محمد -صلى الله عليه وسلم- أصحابه الأوائل بالخروج من جزيرة العرب إلى الحبشة؛ حيث إريتريا وجيبوتى والصومال وغيرها من مناطق القرن الإفريقى. ومن بين عدة آراء دينية وتاريخية، يذهب البعض إلى أن «مصوع» على الساحل الإريترى كانت أول أرض تطأها أقدامهم الشريفة منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا. لكن؛ يبدو أن هذا الشاهد التاريخى أصبح ملازمًا لهذه الأرض وأصحابها منذ تلك اللحظة، فمثلما كتُبت الهجرة إليها فى القرن السابع من أرض الجزيرة العربية، كُتبت الهجرة منها فى القرن العشرين إلى ذات الجزيرة وغيرها من بلاد الله. صحيح؛ أن الإريتريين نجحوا فى الحصول على الاستقلال قبل ربع قرن، وانتصروا على أمة تفوقهم قوة وعددًا بعشرات المرات، لكنهم ما زالوا منذ ذلك الحين يحاولون الوصول إلى ظروف إنسانية صالحة للحياة. فالتقارير الحقوقية تصيح كل يوم، بأن نحو 5000 إريترى يهجرون بلدهم كل شهر؛هربًا من أجواء بالغة الصعوبة فى كل مناحى الحياة. على عكس كل هؤلاء.. كان هو.. فلم يكن حلمه الخروج من إريتريا، إنما العودة إليها.. بعد أن هجرها طفلًا رفقة عائلته عبر البحر الأحمر على عجلٍ تحت القصف من مدينته الساحلية «مصوع» إلى مدينة «جدة». حجى جابر روائى وصحفى إريتريى من مواليد عام 1976. صدر له حتى الآن خمس روايات؛ أولاها «سمراويت» الحائزة على جائزة الشارقة للإبداع العربى عام 2012، ثم أصدر بعدها رواية «مرسى فاطمة»، وفى عام 2015 صدرت له «لعبة المغزل» والتى ترشحت ضمن القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب، أما عام 2019 فقد كان موعدًا «لحجى» مع جائزة كتارا للرواية العربية فى دورتها الخامسة عن فئة الروايات المنشورة، والتى أتت له بها روايته الرابعة «رغوة سوداء»، وقد تُرجمت بعض من أعماله إلى لغات عديدة مثل الإنجليزية، والإيطالية والفارسية وغيرها. وبعد عام عُزِل فيه العالم كاملًا؛ بسبب كوفيد 19 وسلالاته، عاد حجى جابر إلى قرائه مع روايته الأخيرة «رامبو الحبشي» وهى تتناول حياة الشاعر الفرنسى «آرتر رامبو» فى الحبشة؛ ويسعى فيها «جابر» لإعادة الاعتبار لأمرأة رافقت رامبو فى سنواته الأخيرة فى الحبشة، إلا أن الشاعر الفرنسى لم يذكر محبوبته ولا مرة واحدة فى رسائله الكثيرة إلى أمه، فجاء «حجى» ليعيد رسم شخصية هذه السيدة وينتصر لها بعد كل هذه السنوات. ولد حجى جابر فى مدينة «مصوع» الساحلية فى إريتريا، قبل أن ينتقل مع أسرته إلى السعودية بسبب القصف الإثيوبى لإريتريا وقتها، لكنه بدأ مسيرته الروائية عندما عاد إلى وطنه «إريتريا» بعد أكثر من 30 عاما من الاغتراب. لكن لماذا صبَ «جابر» مشروعه السردى فى وطنه الذى لم يعش فيه أصلًا؟ ولماذا عاد إليه فى نهاية المطاف؟ وكيف قضى عامه السابق مع الحظر والعزلة ووسواس العدوى؟ كل هذا وأكثر، سوف يخبرنا عنه الكاتب الإريترى حجى جابر فى السطور القادمة. كيف ترى العالم بعد انتهاء جائحة كورونا؟ وكيف تقضى وقتك فى ظل حظر العالم؟ كان عامًا صعبًا على الجميع، فقدنا فيه أحبة وطوقتنا العزلة الإجبارية من كل جانب، حاولت خلاله أن ألتفت إلى الزوايا المعتمة فى نفسى والعالم من حولى. كانت فرصة لقراءة هذه الحياة بأعين مختلفة. لكن خوفى أننا كأفراد أو مجموعات لم نتعلم مما جرى. كان الوباء فرصة لنتعرف على أولوياتنا فى الحياة؛ الأمور بالغة الأهمية، وأيضًا القشور، تلك القشورالتى غطت كل شيء حتى ظنناها كل شيء. بداية؛ من أين يأتى حجى جابر بحكاياته؟ ليتنى أعرف ذلك، لأصبحت الكتابة أسهل. تأتى الأفكار كشرارة من مكان ما لم أفلح فى تحديده تمامًا. لكن ورغم أن الحياة هى مصدر عظيم للحكايات، فإنى أميل إلى أن المفتاح هو البحث فى داخل المرء عن الحكايات التى تلائمه. أرواحنا تحوى حكاياتنا لكن يصعب الوصول إليها ما لم نحفر عميقًا. نحظى بالحكاية أخيرًا لكننا نكتشف كم هو الطريق طويلًا نحو أرواحنا وليس من السهل بلوغ تمامها. نتعذب فى سبيل ذلك لأننا بحثًا عن الفكرة ننحتُ فى الروح والذهن، لكن الأمر يستحق. لا تكف تكرر أن الكتابة فعل مرهق ويستنزفك.. لماذا إذن تصر عليه؟ أكتب رغم الضريبة التى أدفعها مقابل ذلك، لأن الكتابة وحدها هى من تمنحنى فرصة أن أكون المسيطر على ما يجرى، وكأنى بذلك أعوض ما أفتقده فى الحياة. الكتابة تمسح على ضعفى وقلة حيلتى وتحقننى بما يجعلنى أصمد أمام كل ما جرى ويجرى. حجى جابر؛ من خلال كتاباتك، أتصور أنك ارتشفت هويتك على جرعات متتالية، فمتى بدأت هذه الرحلة؟ وكيف كانت؟ يبدو غريبًا كيف أن الطريق لا آخر له، وأن المشوار هو الغاية، وأن الوصول فى هذه الحالة هو وهم محض. الكتابة تجيب عن أسئلتى نعم لكن بأسئلة أخرى، فلا أكاد أركن إلى الراحة حتى أعود للحفر والتنقيب من جديد. بدأت البحث عن هويتى بين وطنين، الوطن الأم والوطن البديل، ثم اعتقدت أنى اهتديت إلى أنه لا مثيل للوطن الأم، قبل أن أعود لأواجه بأسئلة فى معنى الوطن وفى جدواه إذا كان بعيدًا عن المعنى. هذا الأمر حدث فى مستويات أخرى، فى محاولاتى التعرف على ذاتى وعلى الناس من حولى، وعلى الكتابة نفسها. إنها هويات متداخلة كل قشرة منها تقود لأخرى ولا يبدو أن الوصول إلى اللب متاحًا ومقدورًا عليه. وهل يستطيع حجى جابر الآن، الإجابة عن السؤال الذى ظل يطارده منذ أن بدأ الكتابة عن هويته؛ هل هزمت الغربة التى عششت فيك كل سنوات طفولتك وشبابك؟ أم هزمتك؟ قد نكون وصلنا إلى منطقة وسطى بحيث لا تتمايز الألوان بين الهزيمة والنصر. اكتفى كل جانب بالخروج سالمًا من هذا الرهق. يكفى أن اعترف أنى وفى ذروة ما كنت أطرد الاغتراب من حولى اكتشفت أنه إنما ينمو ويكبر فى النفس وليس خارجها، وأن كل تلك المحاولات للهرب من الغربة كانت هربًا بها ما دمتُ أحملها داخلى. الآن أجدنى متصالحًا مع ملامحى، مع ألا أكون شبيهًا بالناس من حولى، أن أكون طارئًا بعض الشيء، ومقيمًا بعض الشيء. إنه التعب فى أغلب الأحوال وليس الوصول، إذ لا وصول والإنسان يدور حول نفسه ظانًا أنه يمضى قدمًا. هل تتوازن الآن بداخلك معانٍ مثل؛( وطن، علم، نشيد وطنى، منتخب كرة قدم)، كما هو المفروض بأن يكون فى الواقع؟ أم أن ما تشعر به تجاه هذه الكلمات مخالف لإحساسك الحقيقى بها؟ تركت هذه المفردات خلفى. بدت كحواجز تعيق كل المسارات بغض النظر عن الوجهة. تركتها خلفى حتى أضمن ألا أجدها أمامى مجددًا. لكن هل يعنى ذلك تخلصى من الحيرة تمامًا؟ لا أعتقد. هى حيلة محكومة بالوقت لذا قد تنتهى صلاحيتها فى أى لحظة لأعود لنقطة الصفر. لكنى على أية حال مرتاح مع هذه الهدنة المؤقتة. الكاتب المتميز هو فى البداية قارئ متميز جدًا، مع منْ بدأ مشروع قراءتك؟ وهل كان هناك نصيب للمبدع الإريترى فى هذه القراءات؟ بسبب عودتى المتأخرة من الوطن البديل إلى الوطن الأم ثم البقاء عالقا بينهما، لم تكن لإريتريا نصيب من قراءاتى المبكرة. قرأت للكاتب السعودى عبدالله الجفرى وترك في أثرًا كبيرًا. ثم بدأت الدائرة تتسع حتى استقر الأمر ليكون التأثر بكل عمل أقرأه. يحدث ذلك بشكل أو بآخر وبوعى أحيانًا لكن دون وعى فى أغلب الأوقات. كل قراءة شكلت وتشكل ما عليه «حجي» اليوم وما قد يكون عليه فى الغد. وهنا؛ لا يمكننى أن أفوت الفرصة فى أن نتعرف منك على المشهد الثقافى الإريترى من وجهة نظرك؛ ومنْ هم أبطاله؟ الأدب الإريترى تأخر انتشاره لظروف موضوعية كثيرة، أهمها الحرب التى انخرط فيها الجميع إما قتالا أو تهجيرًا، ثم جاء جيل اصطدم بمخرجات الاستقلال فاحتاج لوقت حتى يفيق من صدمته. ما أقوم به رفقة بقية الكتاب هو محاولة إعادة الأدب الإريترى إلى مساره من جديد، أسوة بما فعل الأدباء الأوائل. الجيد فى الأمر أننا نشهد هذه الأيام توالى الإصدارات الأدبية وهو أمر يُبشر بمستقبل منتظر. هناك أسماء عديدة بعضها سبقتنى فى التجربة وأخرى جاءت بعدى لكن شتاتنا يصعب من فرصة أن نكون على دراية تامة بما يستجد من أعمال أو أسماء. أخبرنى ؛ كيف هو حال المرأة الإريترية؟ وإلى أى مدى هو أصعب من وضع المرأة فى العالم بشكل خاص؟ ومن المرأة الشرقية بشكل أخص؟ كان للمرأة الإريترية دور كبير فى حرب الاستقلال وقد ساهمت جنبًا إلى جنب مع الرجل فى استرداد إريتريا. لكن الانتكاسة التى تعيشها البلاد لم يكن لها لتستثنى النساء اللاتى يعانين فى بلاد طاردة، فأصبح الهرب من الوطن أكبر الأحلام، فامتلأت بهن كما الرجال مخيمات اللاجئين إذا كن محظوظات كفاية، أو كان قعر البحر مرقدهن الأخير إذا باغتت الأمواج المراكب المتداعية. كل رواياتك جاءت تحمل الهم الإريترى والإفريقى؛ بالتأكيد وجدت صعوبة فى أن تشعر بهموم لم تزاولها يوما؛ أم أن الهم الأكبر؛ كان فى أنك لم تستطع أن تعيش كشخص عادى فى وطنه؟ أزمة الأوطان متعدية. إنها كالحرب تماما لا يكون الأحياء قد نجوا تمامًا بل يحملون موتهم بداخلهم. كونى لم أمر بما يمر به الإريترى فى الداخل من تجنيد إجبارى أو مرارات الاستبداد، لا يجعلنى بمنأى عن ارتدادات تلك المساوئ. لولا حال إريتريا السيئ لما استمر شتاتنا لعقود. حجى؛ تقريبًا أنت أول كاتب إفريقى يلمع اسمه فى الرواية منذ سنوات كثيرة، وكل رواية تتبعها جائزة أو ترشيح، وكل منْ قرأ لك أقرَ بموهبتك الزاهية، ولكن هل أنت مؤمن بالحظوظ؟ وإن كانت الإجابة؛ (نعم). فإلى أى حد كان حجى جابر محظوطًا؟ أجد نفسى محظوظًا وهذا أمر أردده كثيرًا. لكن الأمر لا يتعلق ابتداء بفكرة الجوائز بل بالاهتداء لعالم الكتابة، هذا العالم الذى غير حياتى ولا يزال. بالكتابة أدركت الكثير وقطعت أشواطًا صوب نفسى، وتصالحت مع المنغصات وابتهجت بالعادى والفاتر من التفاصيل. لولا الكتابة لكنت خلوًا من كل ذلك؟ ما أحلامك فى العام الجديد لإريتريا، القرن الإفريقى؟ العالم؟ ولنفسك؟ أتمنى أن تعود إريتريا كما نتمنى، إنه الحلم القديم الذى انقضت أجيال دون أن يتحقق. وأتمنى أن أُمنح البصيرة لأهتم بالأشياء العادية أكثر وأمتلئ بها. أما العالم فيبدو أن تضارب أحلام البشر حوله جعلته بهذا الاضطراب، لذا سأحجب أمنيتى لعلى أسهم فى تخفيف اضطرابه ولو قليلًا!.