ذلك الذي يحدث الآن ولا يجد العقل له معنى سوى كونه الجنون. وإلا فماذا يعني افتراق الذين جمعتهم الثورة في أيامها العظيمة تحت النار وفي قلب الخطر وبين أنياب الحصار. في مقابل اتحاد الذين طالما فرّقهم اختلاف المبادئ وتعاكس المواقف وافتراق المصالح فقسمتهم وصنّفتهم ما بين ثائر صامد وبين متمرد معارض كشف صدره وتوج رأسه بكبرياء العناد وصمود الشجاعة؛ وبين خائن صريح أو موافق مسالم أو منافق مداهن وانتهازي ممالئ. هكذا كان الحال قبل الثورة عندما اختار كل قدره وتخيّر كل طريقه. وهكذا أيضا كان الحال في الميدان في أيامه الأولى عندما انكشفت الوجوه وسقطت الأقنعة في لحظات الشك في حدوث معجزة النصر؛ وساعات المراهنة على توقع الفشل وانتظاره بل وحتمية حدوثه كما كانوا يتمنون عندما علت الهتافات المتخاذلة ودعوات التراجع وصيحات التهليل الخائنة - تحت صورة الطاغية وبمساعدة الرمق الأخير المتشبث من الفاسدين – تحاول أن تغطي وأن تخمد أصوات الثوار المطالبين بالخبز وبالحرية وبالعدالة الاجتماعية ؛ لكن أضواء النصر الساطعة فرقت بينهم وميّزت الغث من السمين, وباعدت بين الوطني المخلص وبين الخائن العميل. لكن الصورة قد اختلفت الآن - بل ومع كل الحزن وكامل الأسى والأسف - قد اختلّت وتبدلت, فأعيد ترتيب المواقع والأماكن فيها لتظهر وجوه من الخلف خارجة من قاع الفساد المتعفن ومن أعماق الكذب وحفر التزييف والخداع والتضليل والخيانة والانتهازية والتربص والشماتة لتحتل مواقع ليست لها إلى جوار الشرفاء وبمحاذاة أكتاف الثوار والمناضلين الذين لا يختلف على شرفهم أحد, ولا يراهن على ثوريتهم ولا ينكر نضالهم عدو أو صديق. بل تخطى الجنون ذلك, فرأيناهم يهتفون معا للوطن من أجل إنقاذه . ويصيحون معا للثورة من أجل حمايتها بينما هي بريئة منهم وهم لها من الكارهين . كما رأيناهم - ومع أسف أشد - يضمون الأيادي معا ويتبنون نفس الدعوات معا رغم اختلافهم البيّن وعدائهم المتبادل الشديد . وكأنما نسي الشرفاء أنهم يقفون مع أعداء ثورتهم ويصيحون في نفس البوق مع من تآمروا على حاضرهم وخانوا مستقبلهم بالأمس القريب وكأنه سقط من الذاكرة فأصبح منسيّا وصار نائيا . وكأنما نسوا أيضا أن المواقف لا تتجزأ وأن المبادئ لا يساوم عليها وأن المهادنة المرحلية مع الخونة لا بد أن تسلم إلى خيانة . كل ذلك رغم أنهم يعلمون أنهم كارهون لاستقرار هذا الوطن مانعون لخيره عاكفون أبديون على إفساده وقهره ونهبه . فهل من عقلاء إذن يعيدونهم إلى الصواب الذي طالما تمتعوا به كي يتذكروا أن الاستقواء بالخونة خيانة. وأن التدرع بالانتهازيين انتهازية . وأن التعاون مع العملاء- ولو مرحليا أو مؤقتا - سوف يمكّن العملاء منهم ولا يمكّنهم عليهم . فهل من وقفة إذن؟.. وهل من عقلاء يقومون بتنظيف الصورة وفرز من أفسدوها, كي يخرجوا منها المتمسحين كذبا في الحرية والمدهونين نفاقا بأصباغ الديمقراطية والمستفيدين المؤكدين من الفرقة والمنتفعين من الانقسام والمتربحين من الشقاق؟... ولنتساءل معاً وبصدق عن الجدوى من دستور يفرّقنا – ربما لعدم فهم مواده المختلف عليها وربما مصادرة عليه بتأثير دعاية أيديولوجية مضادة أو توجهات سياسية متباينة أو ربما لمجرد العناد والتشبث الأعمى أو التعصب لا يهم - فبإمكاننا ألا نوافق في الاستفتاء الجماعي المزمع عليه. وبإمكاننا أن نتفق على تعليقه وتأجيله كي نعيد مناقشته وصياغة ما لا نتفق عليه من مواده وبنوده. وبإمكاننا أيضا أن نرجئ إعلانات تشقق صفوفنا أو أن نجمدها مؤقتا – وبموافقة جميع الأطراف– حقنا للدماء وتطهيرا للجراح . هل يحدث ذلك الآن وفورا كي نستجيب جميعا له ونمتثل لما يقرره من قرارات ونرضى ونرضخ لما يتعهد به من تعهدات . رجاء أو أمنية أو دعوة أو صيحة أو استغاثة إلى جميع الأطراف وأولهم رئيس الجمهورية المنتخب شرعا والمتخير ديمقراطيا من أجل حاضر هذا البلد بناسه وأرضه وحاضره ومستقبله.