إنّ الثبات على طاعة الله -عزّ وجلّ- من المظاهر التي أورد الله ذكرها في القرآن الكريم في عديد المواطن واختلاف المقاصد، فقد ذُكِر الثبات في سورة الأنفال كأمرٍ من الله للمؤمنين عند ملاقاة العدوّ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[9]،. وقد ذكر الله الوسيلة الأمثل للثّبات من خلال التمسّك بكتابه في سورة النحل، قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}[10]. وفيما يأتي بعضُ النماذج والصّور الكثيرة لثبات الصّحابة والتّابعين -رضوان الله عليهم أجمعين- على دينهم وعلى طاعة الله ورسوله: ثبات الصحابيّ الجليل بلال بن رباح -رضي الله عنه- حينما أخذ المشركين يقومون بتعذيبه في مكّة بوضع الحجارة السّاخنة على بطنه ليرتدّ عن دين الإسلام، ولم تفلح محاولات المشركين أمام ثباته وصدق إيمانه. ثبات الصّحابيّ الجليل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عندما أخذ يُرتّل القرآن جهرًا عند الكعبة واجتمعت عليه قريش يضربونه ويوجعونه، ولم يتوقّف عمّا بدأ به حتّى أنهاه رُغم أنوف المشركين. ثبات الصّدّيق أبو بكرٍ -رضي الله عنه- حينما أخذ يخطب أمام الكعبة وجمهور المشركين يضربونه بنعالهم وحجارتهم، حتّى أصابوه إصاباتٍ شديدةٍ، وحُمِل إلى المنزل وهو في أشدّ الضرر من المشركين، ولم يثني ذلك من عزيمته على اعتناق الدّين والدعوة إليه علانيةً في سبيل الخالق سبحانه. وقال تعالي "وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا (69). ثم قال تعالى : ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ) أي : من عمل بما أمره الله ورسوله ، وترك ما نهاه الله عنه ورسوله ، فإن الله عز وجل يسكنه دار كرامته ، ويجعله مرافقا للأنبياء ثم لمن بعدهم في الرتبة ، وهم الصديقون ، ثم الشهداء ، ثم عموم المؤمنين وهم الصالحون الذين صلحت سرائرهم وعلانيتهم . ثم أثنى عليهم تعالى فقال : ( وحسن أولئك رفيقا ) وقال البخاري : حدثنا محمد بن عبد الله بن حوشب ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن أبيه ، عن عروة ، عن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا والآخرة " وكان في شكواه التي قبض فيه ، فأخذته بحة شديدة فسمعته يقول : ( مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ) فعلمت أنه خير . وكذا رواه مسلم من حديث شعبة ، عن سعد بن إبراهيم به . وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر : " اللهم في الرفيق الأعلى " ثلاثا ثم قضى ، عليه أفضل الصلاة والتسليم . ذكر سبب نزول هذه الآية الكريمة : قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير قال : جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محزون ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " يا فلان ، ما لي أراك محزونا ؟ " قال : يا نبي الله شيء فكرت فيه ؟ قال : " ما هو ؟ " قال : نحن نغدو عليك ونروح ، ننظر إلى وجهك ونجالسك ، وغدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك . فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه شيئا ، فأتاه جبريل بهذه الآية : ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين [ والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ] ) فبعث النبي صلى الله عليه وسلم فبشره .