يقول الكاتب الايرلندي الشهير «تشارلز ديكنز» في رائعته (قصة مدينتين) عن الثورة الفرنسية وما أعقبها من فوضي وصراع مرير علي السلطة: «كان عصر الحكمة، كان عصر الحمق، كانت حقبة التصديق، كانت حقبة الجحود، كان فصل النور ،كان فصل الظلام، كان ربيع الأمل، كان شتاء اليأس، كان كل شىء وراءنا، لم يكن وراءنا شىء، كنا كلنا ذاهبين الي الجنة، كنا كلنا ذاهبين الي الاتجاه المعاكس». هذه الكلمات التي قالها «تشارلز ديكنز» ربما تصف حال مصر الآن بعد أن انقسمت روحها وتفرق رفقاء الثورة بين قصر الاتحادية مقر الرئيس «محمد مرسي» وبين ميدان التحرير وعكس المشهد صورة الحياة السياسية حالياً شديدة الاضطراب والغموض فأمام قصر الاتحادية أدي الآلاف من جماعة الاخوان وحزب الحرية والعدالة صلاة الجمعة الماضية في مظاهرة تأييد للرئيس «محمد مرسي» والاعلان الدستوري وقانون حماية الثورة مؤكدين أنها قرارات ثورية تعيد حقوق الشهداء وتحقق مطالب تطهير القضاء وهتافاتهم تعالت: (الشعب يؤيد قرارات الرئيس) (عاش مرسي عاش.. دم الشهداء مارحش بلاش). بينما كان المشهد مختلفاً ومناقضاً تماماً في ميدان التحرير وفي شارع محمد محمود حيث عادت هتافات الثورة من جديد تتردد: (الشعب يريد إسقاط النظام) (قالوا حرية قالوا دستور.. نفس الدايرة وفيها بندور). في وسط هذا الجو السياسي الخانق الملىء بالضبابية والذي قال عنه «تشارلز ديكنز»: إنه شتاء اليأس وفصل الظلام وعصر الحمق، علينا ان نتذكر الثمانية عشر يوماً البكر لثورة 25 يناير في ميدان التحرير ويسترجع رفقاء الأمس من كافة التيارات السياسية سواء الاسلامية والمدنية والقضائية يوميات الميدان التي كتبها الشهداء بدمائهم. تذكروا قصيدة «يامصر هانت وبانت» التي ألفها الشاعر الشاب «تميم البرغوثي» من أجل ثورة 25 يناير المجيدة وتعد من أروع قصائد الميدان والثورة يتخللها أمل وتفاؤل ببكرة مصر وقد أنشد المبدع الموسيقي الكفيف «مصطفي سعيد» هذه القصيدة علي اوتار العود وسط الحشود الغفيرة من المصريين في بداية الثورة في ميدان التحرير وتقول القصيدة: يامصر هانت وبانت كلها كام يوم نهارنا نادي ونهار النذل مش باين الدولة مفضلش منها إلا حبة شوم لو مش مصدق تعال علي الميدان وعاين ياناس مافيش حاكم إلا من خيال محكوم واللي حيقعد ف بيته خاين وفي مقطع آخر من القصيدة يتملك الأمل من الشاعر «تميم البرغوثي» ويأتيه اليقين بأن نهاية الظلم وشيكة فيقول: يا مصر هانت وبانت كلها كام يوم نهارنا نادي ونهار النذل مش باين نهارنا نادي وبإيدنا علي فكرة والصبح كله فضول راح نعمل ايه بكرة ايده علي الباب وخايف يلمس اللأ كرة ادخل يا أستاذ براحتك والبلد حرة احنا ذهقنا نشوف الصبح من بره ادخل واخرج بقايا العتمة بالمرة أما قصيدة «مكملين» للشاعر «هشام الجخ» فكانت نشيد الثورة فيما بعد تصور روح التحدي والتصميم لنجاح الثورة وحينما كان الأمل بالخلاص يحلق فوق رؤوس الثوار فيقول في بعض مقاطعها: للي مش فاهمين نزولنا في الشوارع لحكومة عودتنا علي الشوارع بيتنا في الشوارع نيمتنا في الشوارع الحكومة قفلت علي نفسها البيبان خوفتنا من البيبان فاترمينا كلنا في حضن الشوارع أكبر مكان لقيناه امان للي خايفين علي البلد لحسن تموت ماتخافوووش الموت سكوت واحنا مش في الخطة أصلا إن بكرة يكون سكوت. يتسلل وسط الآلاف في ميدان التحرير صوت رقيق أشبه بالملائكة يحثهم علي الصمود والثورة علي القهر الذي عشش في القلوب والعقول تمسك في يداها الصغيرتين العود وتغني: ياه يا الميدان كنت فين من زمان هديت السور نورت النور لميت حواليك شعب مكسور اتولدنا من جديد واتولد الحلم العنيد بنختلف والنيا صافية أوقات الصورة مكنتش واضحة هنصون بلدنا وولاد ولدنا حق اللي راحوا من شبابنا ياه يا الميدان كنت فين من زمان معاك حسينا وابتدينا بعد مابعدنا وانتهينا لازم بادينا نغير نفسينا ادتنا كتير والباقي علينا ساعات بنخاف تبقي ذكري نبعد عنك تموت الفكرة نرجع تاني ننسي اللي فات نحكي عنك في الحكايات يا يالميدان كنت فين من زمان. الميدان في التحرير والاسكندرية والسويس وبورسعيد وسوهاج وبني سويف وكل ميدان في مصر كتب له الشاعر الكبير «عبد الرحمن الابنودي» قصيدته «الميدان» ليخلد ذكري ثمانية عشر يوماً استثنائية صنعت تاريخا مضيئاً في ميادين مصر يقول في بعض مقاطعها: صباح حقيقي ودرس جديد آوى في الرفض آتاري للشمس صوت وآتاري للأرض نبض تاني معاكم رجعنا نحب كلمة مصر تاني معاكم رجعنا نحب ضحكة بعض مين يقول اببنا يطلع من النفق دي صرخة ولاغني ودة دم ولاشفق يادي الميدان اللي حضن الذكري وسهرها يادي الميدان اللي فتن الخلق وسحرها يادي الميدان اللي غاب اسمه كثير عنه وصبرها مابين عباد عاشقة وعباد كارهة مهما حاصرتوا الميدان عمروا ما يتحاصر فكرتني يا الميدان بزمان وسحر زمان فكرتني بأغلي أيام في زمن ناصر. يبقي للكبار سحرهم الخاص عندما يندفعون نحو الامل وينفضون سبات الصمت فيكتب الشاعر الكبير «فاروق جويدة» بغضب: يا أيها القناص ثمن الرصاصة يشتري خبزا لنا وشبابنا قد سال نهراً من دماء بيننا لم لايكون سياج أمن حولنا هذا الوطن؟ لم لاتكون ثماره ملكاً لنا؟ يا أيها القناص.. انظر نحونا ستري بطوناً خاوية وقلوباً واهية وتري جراحا دامية فالأرض ضاقت ليس لي فيها سند والناس من حولي لا أري منهم أحد. سيرحل الجميع كما رحل الغابرون في كل وطن وستبقي يوميات الثمانية عشر يوماً في ميادين المحروسة تحكي لكل جيل وليد عن الدم المطبوع في كل ميدان، عن حكاية بنات وشباب كانوا من سنين هنا أولاد موت، ولكني قبل أن أرحل مع الجميع أغلقت صوت المذياع، أشحت بوجهي عن كل الفضائيات، لم تعد في سيرة وطني زهرة تتفتح في البستان، ضحكة طفل تهدهده أمه وتعرف أن مستقبله في أمان، أب يحمل في إيده فاكهة وخبز وحنان، لم تعد ياوطني كما عرفتك في الميدان.