قبل أن تستدعيه وزارة الخارجية المصرية، كان السفير الإسرائيلي في القاهرة ينفذ تعليمات بلاده، ويسعى للمغادرة في أول طائرة تجنباً للمطالبة بطرده وتوقعاً لتظاهرات غاضبة لن تكتفي بقرار سحب سفيرها لدى إسرائيل، وخوفاً من تكرار اقتحام مقر السفارة الإسرائيلية كما حدث من قبل. الغضب المصري الآن، ليس فقط من باب التضامن مع الشعب الفلسطيني الشقيق ودعم صموده ضد النازية الإسرائيلية، ولكن مخاوف القاهرة تتجاوز ذلك بكثير على خلفية ما يجري في سيناء واحتمالات أن يجري استغلاله من جانب إسرائيل لدفع المنطقة إلى مرحلة بالغة الخطورة، وتنفيذ مخططاتها بالنسبة لسيناء. فمنذ أن بدأت الأحداث تتصاعد في سيناء بعد الثورة والشبهات تحيط بالدور الإسرائيلي، وكان واضحاً أن الاختراق المخابراتي الإسرائيلي كبير في ظل التسهيلات التي وفرتها المعاهدة المصرية الإسرائيلية لدخول الإسرائيليين. وعندما وقعت مذبحة رفح التي راح ضحيتها ستة عشر جندياً مصرياً، كانت إحدى رسائلها الواضحة أن الجماعات التي قامت بها مخترقة إسرائيلياً. وعندما تحركت القوات المسلحة المصرية لمواجهة الموقف كان رد الفعل الإسرائيلي يستكمل الانطباع بان إسرائيل تعد لما هو أخطر، كانت إسرائيل تصعد نغمة أن أمنها مهدد من سيناء، وأنها لن تسكت على ذلك، وأن الأمر خرج عن السيطرة المصرية وأنها قد تضطر للتدخل بنفسها. ذلك في وقت كان المجلس العسكري هو الذي يتولى الحكم في مصر. وكان يتحسب من التدخل في سيناء، وهو الموقف الذي تغير بعد مذبحة رفح، وبعد أن تفرغ الجيش لمهماته الأساسية مع انتخاب الرئيس محمد مرسي، لكن المفاجأة كانت أن إسرائيل التي كانت تصرخ طالبة أن يتعامل الجيش المصري مع التنظيمات الإرهابية في سيناء، وقفت تصرخ هذه المرة لأن بضع دبابات ومدرعات مصرية دخلت المنطقة التي تفرض عليها المعاهدة التسليح المحدود. وعندما طلبت مصر تعديل الملحق الأمني للمعاهدة لكي يتمكن الجيش المصري من استعادة السيطرة الكاملة على سيناء، كان الرفض الإسرائيلي قاطعاً، وكان التأييد الأميركي لهذا الرفض كاملاً، ماذا يعني ذلك؟ كان يعني أن تبقى سيناء رهينة تتدفق عليها الجماعات الإرهابية المخترقة من إسرائيل ومن أميركا، وأن تبقى يد الجيش المصري مغلولة، وأن يبقى الأشاوس الذين "يجاهدون" بقتل رجال الأمن المصري يرفعون أعلامهم السوداء، بينما إسرائيل تمسك بأوراق هذه اللعبة الخطرة في يدها. وتستخدمها للضغط على كل الأطراف، خاصة وهي تعرف حجم المشاكل التي يواجهها رئيس مصري من الإخوان المسلمين يرتبط مع "حماس" باعتبارها جزءاً من الجماعة، ويسعى لنيل الدعم الأميركي الضروري له لمواجهة مشاكل الداخل وتحديات الخارج. وفي مواجهة هذه المواقف قدم الرئيس المصري الكثير من التنازلات، تنازل عن طلب تعديل الملاحق الأمنية للمعاهدة مع إسرائيل رغم أن هذا يعرضه لصدام مع جيش يسعى لفرض سيطرته على سيناء وإبعاد المخاطر الإرهابية. وأرسل خطاب الاعتماد السفير الجديد لدى إسرائيل مخاطباً الرئيس الإسرائيلي ب"الصديق الوفي" . ويتحدث عن "علاقات المحبة" بين الدولتين، ورضي باستقبال القيادات العسكرية الأميركية لتفقد الأوضاع في سيناء، ومع ذلك كله فقد كانت تقديرات أجهزة المخابرات المصرية والفلسطينيين أيضاً، وأن إسرائيل تخطط لعمل عسكري كبير تجتاح فيه غزة . كما فعلت في 2008، ومن هنا كان التحذير الذي أبلغه النظام المصري لتل أبيب قبل أيام من العدوان بعدم التصعيد، وهو التحذير الذي تم تجاهله، فكان أن تم سحب السفير المصري من بلد رئيسها هو "الصديق الوفي" كما قيل في الرسالة المشؤومة. إن المخطط الإسرائيلي واضح ومعروف، الحرب في غزة والفوضى في سيناء وبعدها تنفتح الأبواب لتنفيذ المؤامرة، اجتياح أبناء غزة للحدود هرباً من جحيم العدوان الإسرائيلي. "البروفة" التي حدثت من قبل يمكن أن تتكرر والظروف الآن تختلف. الإرهاب الذي تم زرعه في سيناء يمهد الطريق، والفراغ الأمني يفتح الأبواب. والرفض الإسرائيلي الأميركي لتعديل المعاهدة في الشهور الماضية ليتمكن جيش مصر من التعامل مع الموقف يزيد الشكوك. الرد ليس فقط بسحب السفير أو طلب انعقاد مجلس الأمن، الرد بفرض السيطرة المصرية الكاملة على سيناء ودعم صمود الشعب الفلسطيني على أرضه وفرض الوحدة الفلسطينية، والخروج من دائرة طلب الرضا الأميركي من أجل البقاء في الحم. الرد أن تعود مصر لدورها، وأن يعود الدور القومي إلى مصر، وعندها فقط تعتدل الموازين. وللتاريخ، قبل ستين عاما، وبعد ثورة يوليو، تعرضت مصر لنفس الضغوط، وتم إشعال الموقف على الحدود، وطرح التأييد الأميركي مع اقتراحات للصلح مع إسرائيل ولتصفية القضية الفلسطينية، ولضم القطاع لمصر، أو ضم جزء من سيناء إليه. يومها كانت الرؤية واضحة، وكان الخيار هو الانحياز لاستقلال الإرادة الوطنية، ولتحرير الوطن العربي، ولاستعادة الحقوق المشروعة. الأوضاع الآن أكثر تعقيداً مع وجود حماس في غزة وحكم "الإخوان" في مصر، وما يجري في سيناء من تحركات مشبوهة، قد تنجح جهود التهدئة في إيقاف العدوان هذه المرة، لكن يبقى الخطر الإسرائيلي ويبقى أن فصلاً جديداً من الصراع قد بدأ ولن ينتهي قريباً. نقلا عن صحيفة البيان الاماراتية