من بين سحائب الدخان التي غطت سماء التحرير في أحداث محمد محمود،كانت في الأفق نقطة ضوء تتسلل إلى الوطن المحمل بالنكبات. ولون الدماء الذي أصبح مشهدا يوميا، وأنات الجرحي والمصابين، والعيون التي فارقت أجفانها، تعطلت آلامها التي تأبى النسيان قليلا أمام مشهد «الوحدة الوطنية» فطرية المنشأ على أعتاب كنيسة قصر الدوبارة. بين أروقة تلك الكنيسة التي فتحت أبوابها للمصابين، وأقامت مستشفى ميدانيا على خطى مسجد عمر مكرم، كانت عيادة ميدانية ومصلى أعده القائمون على الكنيسة لمن أراد الصلاة من المسلمين. وفتحت الكنيسة خطا مشتركا لتبادل الأدوية مع مسجد عمر مكرم، الروح المصرية الحقيقية لم تهزمها قنابل الغاز ولا طلقات الخرطوش، وإنما تهزمها أصوات الغوغاء من أنصاف المتدينين. حسبما أفاد القس سامح موريس راعي الكنيسة، فإن مبادرة كنيسة قصر الدوبارة بإنشاء مستشفى ميداني، إنما جاءت انطلاقا من الدور الوطني الذي يجب أن يؤدى تجاه الثورة المصرية. «قصر الدوبارة» في أحداث محمد محمود ومجلس الوزراء لم تغلق أبوابها، وكان شأنها شأن معظم العيادات الميدانية من ناحية تعرضها للقصف بالغاز المسيل للدموع، والهجوم من قبل البلطجية حينئذ - ،لكن اللجان الشعبية التي ضمت مسلمين وأقباطا حالت دون وقوع أضرار على الكنيسة التي خلدت في ذاكرة الثورة المصرية. ويسجل القس سامح موريس شهادته على الأحداث قائلا «كانت أحداث محمد محمود اختبارا صعبا، وكان المستشفى الميداني الذي يضم «180 طبيبا وصيدليا ومسعفا» يستقبل يوميا ما يزيد علي 500 مصاب، بينما عدد الأسرة لم يتجاوز 15 سريرا. أصعب الأوقات في 6 أيام ل«أحداث محمد محمود» كانت بين الثالثة فجرا وحتى ساعات الشروق، تلك الفترة كانت تشهد هجوما شرسا – حسبما يصف راعي كنيسة قصر الدوبارة، في المقابل كانت تفتر همم الأطباء جراء مجهود لم يتوقف طيلة ال24ساعة بشكل يومي. ويستطرد قائلا «كنا نشعر بالأسى لحظة وصول مصاب حالته حرجة، أو شهيد فارق الحياة». نقطة الضوء في أحداث الثورة فارقت سماء الوطن، وتبدلت بسحابة احتقان طائفي يتمدد وتتسع رقعته في أجواء غابت عنها ثقافة العيش المشترك. عام على أحداث محمد محمود، الذي يعرفه التاريخ بأنه «شارع عيون الحرية»، ولاتزال الوحدة الوطنية في مصر لم تتبلور على أرضية «المواطنة»، وإنما تظهر كلما لاحت في الأفق ضائقة جمعت المصريين على هدف مشترك.