أنفق الأميركيون أكثر من ملياري دولار على حملة الانتخابات الرئاسية الأخيرة. معظم هذا المبلغ سحب من جيوب كبار الممولين؛ من أصحاب المصالح الاقتصادية الواسعة، الذين لا يضنون بأموالهم لقاء صيانة هذه المصالح وما يتصل بها من نفوذ اجتماعي وسياسي. بين سطوة المال من جانب وشهوة السلطة من جانب آخر، تأثير متبادل يظهر أبرز تجلياته في عملية الاستطراق بينهما في حقل الحكم والسياسة، فالاستحواذ على أحدهما يغري بالبحث عن الآخر. ومن هذه الملاحظة خرجت المعادلة القديمة، التي تقول بأن من يملك يحكم. والظاهر أن شهرة هذه المعادلة طغت على مشتقات أخرى يمكن استلهامها من الملاحظة ذاتها، مثل أن من يحكم لديه فرصة كبيرة في أن يملك، وأن يمسي أكثر قوة ونفوذا وسلطانا. لكن التسلسل بين هذه الاستحواذات، يختلف بحسب محددات بعينها. ففي المجتمعات الأكثر تقدما ورقيا وغنى، بالمعنى الاقتصادي، وتطورا من حيث الممارسة الديمقراطية، غالبا ما تبدأ المعادلة من عند المال.. بينما يكون الاستيلاء على الحكم والسلطة، فاتحة الاستطراد إلى جمع الثروة واستجلاب المال في المجتمعات النامية الموسومة بالتخلف. وشأن كافة الظواهر الاجتماعية والسياسية، يصعب القطع بأننا، في إطار هذه العلاقات، بصدد قوانين صارمة لا يأتيها الباطل من أي مكان. فقهاء النظم السياسية يعرفون هذه التعميمات، ويجتهد الساهرون منهم على أحوال الديمقراطية والتحول الديمقراطي، في محاولة الوصول إلى قواعد وقناعات أكثر صدقية ورسوخا، علهم يتمكنون ذات حين من "قوننة" العلاقة بين المال وبين الحكم والسلطة والنفوذ. لكن هؤلاء الأخيرين مقتنعون بأن الاعتبارات الاقتصادية، المالية بالذات، تكاد تفسد مقولاتهم عن الانتخابات الحرة والمساواة وتكافؤ الفرص وفصل السلطات، بل وأن هذه الاعتبارات قد تحول دون نزاهة القضاء.. غير أنهم يدافعون عن فلسفتهم، بالقول بأن النظم الديمقراطية تبقى الأقل عرضة للفساد من مدخل التأثير المالي، لامتلاكها آليات وقائية قوية، كالرقابة والمحاسبة وشفافية التعاملات، والفصل بين الذمتين الخاصة والعامة للحكام. كأن منظري الديمقراطية يقرون بأن أصحاب المال لا يكفون عن التلاعب بالعملية السياسية وتوجيهها بما يخدم مصالحهم، إما بشكل مباشر عبر دخولهم المعترك السياسي، وإما على نحو غير مباشر من خلال محاولة شراء ذمم الساسة بتمويلهم عن بعد. لكن هذا يجري مقرونا بأدوات حمائية تحد من شرور تحالف المال مع السياسة، وهي أدوات لا تتوفر لدى النظم غير الديمقراطية، التي ينعم فيها هذا التحالف ببيئة تخلو من أي رادع أو وازع. والشاهد عندنا أن كافة النظم السياسية ليست بمفازة من شبهة التعامد بين المال والسياسة، وأن الدفع بوجود إجراءات تكفل تحجيم تأثير المال السياسي في الديمقراطيات، لا يكفي في ملتنا واعتقادنا لاطمئنان عامة شعوب هذه الديمقراطيات، إلى فكرة المساواة والتكافؤ بينهم على صعيدي الترشح والتصويت، إذ ما الذي أدرانا وأدرى هؤلاء العامة بعدد قضايا الفساد المالي السياسي المخبوءة، قياسا بعدد القضايا التي تكشفها أدوات الرقابة والمحاسبة؟ وكيف يتأتى لهذه الأدوات فضح ملفات هذا الفساد، إذا ما أمكن لتحالف الفاسدين إحكام السيطرة على ملفاتهم وكتمان دسائسهم، بل واحتمال أن يتمكن هذا التحالف من مد سطوته ونفوذه إلى أدوات الرقابة ذاتها، باعتبار أن الجميع يبحر في مركب (نظام) واحد؟ ومن قال إن أنماط تصويت عامة المواطنين وخياراتهم في المواسم الانتخابية، تجري بمعزل عن تفضيلات الإعلام الدعائي، الخاضع بدوره لكبار الممولين والمعلنين وأتباعهم في المؤسسات الصحفية متعددة الأشكال والهيئات؟.. مثل هذه الأسئلة، تجرح طهرية حديث الديمقراطيات الغربية ومغالاتها في طوباوية العلاقة بين المال والسياسة، وتوحي بأنه كما أن للنخب في الديكتاتوريات أساليبها في التغطية على الفساد المالي السياسي واحتكار المال والحكم معا بعيدا عن ملح الأرض من أبناء شعوبهم، فإن نخب المال والسياسة في الديمقراطيات قادرة على أداء هذه الأدوار وزيادة. والحال كذلك، ثمة وصفة ناجعة للتعرف على بعض أهم توجهات الرئيس باراك أوباما وسياساته في ولايته الثانية.. وصفة خلاصتها التعرف على القوى التي ساهمت أكثر في تمويل حملته الانتخابية، وتبصر نوعية المصالح التي تمثلها هذه القوى التي لا تنفق أموالها عشوائيا أو كصدقة جارية. نقلا عن صحيفة البيان الاماراتية