الأدب دائماً ما يأتي مُلوّناً مشحوناً بمناخِ اللحظةِ التي تدفق فيها فهو انعكاس للراهن ولذات الأديب في آن واحد .فلا غرابة إذا وجدنا للدين حضوراً كبيراً في الكتابات الرمضانية . ففي هذا الشهر المبارك تصفو النفس وتغتسل الأرواح بنسماته الطاهرة فيتجلى هذا النقاء الروحي في كلماتِ الكاتب سواء كانت شعراً أم نثراً فيطوف بالمتلقي في عالم من الجمال حيث العبارة تفوح بشذا النفوس المؤمنة. الشاعر السودانى محمد الحبيب يتذكر الشهر الكريم قائلا: أنا كشاعر يحملني الشهرُ المباركُ إلى المديح النبويّ والشعر الصوفي وقد كتبت عدةَ قصائد في هذين الغرضين، فرمضان بالنسبة لي جسر يجعلني أقرب إلى الله فعندما أكتب يكون للحب الإلهي وجود قويٌّ في شعري مما يجعل النص يميل الى الرمزية فالكلمات لا تقول بقدر ما هي تحيلُ إلى عالم تسكنه الدهشة ، والحب الإلهي يضفي على النصوص قداسةً وهيبةً ولدينا قصائد كثيرة في تاريخنا العربي اتخذت زينتها من هذا المنبع العذب. الكتابة الرمضانية هي مرآة لها أكثر من بُعد أولاً هي ما يعكس ثقافة الأمة الدينية وشعورها بهويتها التي تميزها عن بقية الأمم. ثانياً: هي المسرح الذي يجسد وعي الكاتبِ والتزامه الأخلاقي تجاه المجتمع ودوره الإرشادي فيه ، فكثيراً ما يتجلى هذا النوع في شعر الزهد والموعظة وويتجلى أيضاً في الأدب القصصي بحيث يضع القاص في قصته راسلة أخلاقية تجمع بين العظة والعبرة . نماذج للشعر الرمضاني أول هذه النماذج أبيات ذات نكهة دينيّة خالصة تفوح روح الناسك الواعظ فيها وهي لأحد الشباب المميزين الشاعر محمد يوسف ابراهيم إذ يقول: أنا ياصديقي لفظتُ انْتِمائِي لغيرِ الإلهِ الرحيمِ المُعينِ ولن أنْثنِي طالَما أنّنِي قدْ ركَنْتُ إلى الحقِّ ربي ودينِي وإنِّي هنا جالسٌ لا أحيدُ فكنْ كيف شِئتَ ولا تزْدرينِي لعَمْري إذا الحقُّ يومًا أتَي ستنْجابُ ظُلْمَاتُ دهرٍ مكينٍ كما قالَ ربِّي لنَا ذاتَ يومٍ قَرُوا وسيأتِي انتصارِي لدينِي كما نلاحظ أن المقطوعة تحمل ملامح المسلم المتدين الذي يحارب دنياها بحثاً عن آخرته في هذا النص يوجد شخصان أحدهما يمثل الدنيا والآخر يمثل المسلم الذي يدافع عن القيم الدينية فشاعرنا يجادل صوتاً داخلياً لم يكن له حضوراً حرفياً في الأبيات لكن يمكننا أن نتحسسه من خلال معاني الأبيات فهي جاءت كالإجابات عن أسئلة طُرحت ،فهذه العبارات تحاول أن تسكت بخطاب ديني ذلك الصوتَ دنيويَّ الذي يججل في نفس الشاعر ،فجعل الشاعر همومه الدنيوية انساناً ليجري معها حواراً يفضي إلى قناعة بتركها وترك الإنتماء إليها والإحتماء بمحبة الله ورحمته الواسعة . النموذج الثاني : أبيات تمثل مدح المصطفى عليه الصلاة والسلام وهي أبيات كتبت أيضاً في الشهر المبارك مدهونة بأرجيه الطيب وهي للشاعر الشيخ موسى محمد حيث يقول وإن جارتْ عليَّ بناتُ دهرٍ فلا جارٌ سواكَ يشدُّ حالي ففي مأواكَ يصبحُ كلُ زكٍ عزيزَ الجارِ ينعم بالجزالِ وقد لاقيتُ من رؤياكَ وجهاً ينيرُ الأرضَ في دجنِ الليالي صَلاةُ اللهِ خالِقِنا دواماً علي اصلِ المحاسنِ والجمال على سرِ الالهِ وستر ربٍ تقاصرَ عند مدحتِه مقالي و لاحظنا أن الشاعر يلوذ ويحتمي بالنّبي من فواجع الدهر ولا يخفى على أحد أن المعاني التي تضمنتها الأبيات معان ذات هوىً صوفي . هذه النماذج لتجليات الشعر في رمضان فكما رأينا أن الدين هو المادة التي يصوغ منها الشعراء قصائدهم ولا غرابة في ذلك ما دام هذا الشهر هو العبادة والتقرب إلى الله وما الشعر إلا صدى للواقع . و رمضان حيث العاطفة الدينية تُثري المشهد الإجتماعي فترى المساجدَ عامرةً بقراءةِ القرآنِ والخطبِ الدينيةِ كما ترى الإفطارات تقام في المساجد والساحات ( الضرى) كما نسميه باللهجة السودانية ،فيكون لكل هذه المشاهد الجميلة صدى واسع في الأدب الكتابيّ والشفاهيّ . للثقافة المحلية مقعدٌ مريح في القصص الشعبية فكثيراً ما تجسد أحاجي الجدةِ التراثَ القومي والمعتقدات الشعبية وتحمل في حكاياتها مشاهداً يتمظر من خلالها التاريخ الإسطوري والمورث الشعبي في جميع جوانبه الأدبية والفكرية ،فصوتُ الجدة مرآة صداقة لوعي الإنسان البدائي الأول وتساؤلاته حول الكون وأسراره ،فالحكايات الشعبية دائما ما تحاول الإجابة عن أسئلة عُليا وخفايا الكون والإنسان لكن ليس بشكل علمي بل بشكل دارمي أدبي مُسلي يأخذ المتلقي ويطوف به في خمائل إيمانيةَ النفحاتِ يستنشق فيها هواء الدهشة الأولى ، دهشة الإنسان النقي المجرد من كل صبغة مذهبية أو توجه فكري، الدهشة العارية مِن كلّ شيءٍ سوى الفضولِ الآدميّ . رمضان هو شهر الأحاجي والحكايات التي يُمليها الكبارُ على الصغار لأجل التربية والإمتاع في آن واحد. فكثيراً ما يتجمع الأهل ليلاً لكبيرهم ويجمعون ما يتناثر من صوته من وصايا و حكمٍ صلقتها التجاربُ ويسترسلون مع كلامه ذاهبيين بصوته إلى أقاصي عالم الأساطير . أما في الشعر تتاخذ الثقافة الشعبية مكاناً أصغر حجماً مقارنةً بالأدب القصصي وذلك يعود لطبيعة الشعر وصرامة قوانينه ، ولكن مع هذا يمكننا أن نجد ظلاً للعادات والثقافات المحلية في الشعر فهناك قصائد كثير تغنت بالشهر الكريم ورسمت بعض ملامحه الجميلة وعلى سبيل المثال لا الحصر سأعرض عليكم هذه الأبيات الرمضانية التي كتبتها لرسمِ بعض مشاهده شعراً أقول فيها: لبس الطريق عند المغيب بهاءَه بعمائمٍ بيض جلتْ إمساءه يمشون في الطرقات مثل أهلةٍ تبدو متى أرخى الظلامُ رداءَهَ عطشوا وقد رقَّ السحابُ بظله مستغفراً عن مائه استعصاءَهَ تُسقى بتسبيحِ الإلهِ قلوبُهم فالماء ينسخ منهمُ أسماءَهَ قد فصل الإيمانُ قمصاناً لهم فتَلَفّحُوا حدَّ الرضا أزياءَهَ وعلى هذا الأسلوب الديني تأتي معظم القصائد .وهذا لا يعني انعدام الأغراض الشعر الأخرى قد يكتب الشاعر في غرض آخر لكن في أغلب الأحيان ينحو الشعر منحىً دينياً في هذا الشهر .